الآيات 11-20

قوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ، بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ، وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ، وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ، وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ، فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ، وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة إلا عاصما ﴿ بل عجبت ﴾ بضم التاء. الباقون بفتحها. قال أبو علي: من فتح التاء أراد: بل عجبت يا محمد من إنكارهم البعث أو من نزول الوحي على قلبك وهم يسخرون، ومن ضم قال: معناه إن إنكار البعث مع بيان القدرة على الابتداء وظهور ذلك من غير استدلال عجيب عندك. وقال قوم: إن ذلك اخبار من الله عن نفسه بأنه عجيب، وذلك كما قال ﴿ وإن تعجب فعجب قولهم ﴾ (1). وهذا غير صحيح، لان الله تعالى عالم بالأشياء كلها على تفاصيلها، وإنما يعجب من خفي عليه أسباب الأشياء، وقوله ﴿ فعجب قولهم ﴾ معناه عندكم. وقرأ ابن عامر ﴿ إذا ﴾ على الخبر. الباقون على الاستفهام على أصولهم في التحقيق والتخفيف والفصل وقرأ ﴿ إنا ﴾ على الخبر أهل المدينة والكسائي ويعقوب. وقرأ الباقون بهمزتين على أصولهم في التحقيق والتليين والفصل. وقرأ أهل المدينة وابن عامر ﴿ أو آباؤنا ﴾ بسكون الواو - هنا وفي الواقعة - إلا أن ورشا على أصله في إلقاء حركة الهمزة على الواو. الباقون بفتح الواو. وهذا خطاب من الله تعالى لنبيه يأمره بأن يستفتي هؤلاء الكفار وهو أن يسألهم أن يحكموا بما تقتضيه عقولهم، ويعدلوا عن الهوى واتباعه، فالاستفتاء طلب الحكم ﴿ أهم أشد خلقا أم من خلقنا ﴾ يعني من قبلهم من الأمم الماضية والقرون الخالية، فإنه تعالى قد أهلك الأمم الماضية الذين هم أشد خلقا منهم لكفرهم، ولهم مثل ذلك إن أقاموا على الكفر. وقيل: المعنى أهم أشد خلقا منهم بكفرهم، وهم مثل ذلك أم من خلقنا من الملائكة والسماوات والأرضين، فقال: أم من خلقنا، لان الملائكة تعقل، فغلب ذلك على مالا يعقل من السماوات، والشدة قوة الفتل وهو بخلاف القدرة والقوة. وكل شدة قوة، وليس كل قوة شدة، وأشد خلقا ما كان فيه قوة يمنع بها فتله إلى المراد به. ثم اخبر تعالى انه خلقهم من طين لازب. والمراد انه خلق آدم من طين، وإن هؤلاء نسله وذريته، فكأنهم خلقوا من طين، ومعنى ﴿ لازب ﴾ لازم فأبدلت الميم باء، لأنها من مخرجها، يقولون: طين لازب وطين لازم قال النابغة:

ولا يحسبون الخير لا شر بعده * ولا يحسبون الشر ضربة لازب (2)

وبعض بني عقيل يبدلون من الزاي تاء. فيقولون: لاتب، ويقولون: لزب، ولتب، ويقال: لزب يلزب لزوبا. وقال ابن عباس: اللازب الملتصق من الطين الحر الجيد. وقال قتادة: هو الذي يلزق باليد. وقال مجاهد: معناه لازق: وقيل: معناه من طين علك خلق آدم منه ونسب ولده إليه. وقوله ﴿ بل عجبت ويسخرون ﴾ فمن ضم التاء أراد أن النبي صلى الله عليه وآله أمره الله أن يخبر عن نفسه انه عجب من هذا القرآن حين أعطيه، وسخر منه أهل الضلالة. قال المبرد: وتقديره قل بل عجبت. ومن فتح التاء أراد ان الله تعالى خاطبه بذلك. والعجب تغير النفس بما خفي فيه السبب في: ما لم تجر به العادة، يقال: عجب يعجب عجبا وتعجب تعجبا. والمعنى في الضم على ما روي عن علي عليه السلام وابن مسعود ليس على أنه بعجيب كما يعجب، لان الله تعالى عالم بالأشياء على حقائقها، وإنما المعنى انه يجازي على العجب كما قال ﴿ فيسخرون منهم سخر الله منهم ﴾ (3) (ومكروا ومكر الله ﴾ (4) ويجوز أن يكون المعنى قد حلوا محل من يعجب منهم. والفتح على عجب النبي صلى الله عليه وآله ﴿ ويسخرون ﴾ معناه يهزؤن بدعائك إياهم إلى الله. والنظر في دلائله وآياته. ﴿ وإذا ذكروا ﴾ بآيات الله وحججه وخوفوا بها ﴿ لا يذكرون ﴾ أي لا يتفكرون، ولا ينتفعون بها ﴿ وإذا رأوا آية ﴾ من آيات الله تعالى ﴿ يستسخرون ﴾ أي يسخرون وهما لغتان. وقيل: معناه يطلب بعضهم من بعض أن يسخروا ويهزؤا بآيات الله، فيقولون ليس هذا الذي تدعونا إليه من القرآن وتدعيه أنه من عند الله ﴿ إلا سحر مبين ﴾ أي ظاهر بين. وحكى انهم يقولون أيضا ﴿ أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون ﴾ بعد ذلك ومحشورون ومجازون ؟! ﴿ أو آباؤنا الأولون ﴾ الذين تقدمونا بهاه الصفة، واللفظ لفظ الاستفهام والمراد بذلك التهزي والاستبعاد لان يكون هذا حقيقة وصحيحا. فمن فتح الواو فلأنها واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله ﴿ قل ﴾ لهم ﴿ نعم ﴾ الامر على ذلك، فإنكم تحشرون وتسألون وتجازون على اعمالكم من الطاعات بالجنة والثواب، وعلى المعاصي بالنار والعقاب فيها ﴿ وأنتم داخرون ﴾ أي صاغرون أذلاء - وهو قول الحسن وقتادة والسدي - وقيل: الداخر الصاغر الذليل أشد الصغر والصاغر الذليل لصغر قدره. ثم قال أيضا وقل لهم ﴿ فإنما هي زجرة واحدة ﴾ فقال الحسن: يعني النفخة الثانية. والزجرة الصرفة عن الشئ بالمخافة، فكأنهم زجروا عن الحال التي هم عليها إلى المصير إلى الموقف للجزاء والحساب ﴿ فإذا هم ينظرون ﴾ أي يشاهدون ذلك ويرونه. وقيل: معناه فإذا هم أحياء ينتظرون ما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه، ويقولون معترفين على نفوسهم بالعصيان ﴿ يا ويلنا هذا يوم الدين ﴾ اي يوم الجزاء والحساب. و (الويل) كلمة يقولها القائل إذا وقع في الهلكة، ومثله يا ويلتي، ويا حسرتي، ويا عجبا. وقال الزجاج: والمعنى في جميع ذلك ان هذه الأشياء حسن نداؤها على وجه التنبيه والتعظيم على عظم الحال، والمعني يا عجب اقبل ويا حسرة اقبلي فإنه من أو انك وأوقاتك، ومثله قوله ﴿ يا ويلتي ألد وانا عجوز ﴾ (5) وقوله ﴿ يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ﴾ (6).


1- سورة 13 الرعد آية 5.

2- مجاز القرآن 2 / 167 القرطبي 15 / 69.

3- سورة 9 التوبة آية 80.

4- سورة 3 آل عمران آية 54.

5- سورة 11 هود آية 72.

6- سورة 39 الزمر آية 56.