الآيات 31-40

قوله تعالى: ﴿قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ، قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ، قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ، فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ، لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾

لما قال موسى لفرعون " أو لو جئتك بشئ مبين قال " فرعون " فات به إن كنت من الصادقين " أي هات ما أدعيته من المعجزة إن كنت صادقا " فألقى عصاه " حينئذ موسى " فإذا هي ثعبان مبين " وهي الحية العظيمة، ومنه المثعب وهو المجرى الواسع، وانثعب الماء انثعابا إذا جرى باتساع، ومنه الثعبان لأنه يجري باتساع لعظمه. وفى قلب العصا حية دلالتان:

إحداهما: دلالة على الله تعالى، لأنه مما لا يقدر عليه إلا هو، وليس مما يلتبس بايجاب الطبائع، لأنه اختراع، للانقلاب في الحال.

الثاني: دلالة على النبوة بموافقته الدعوة مع رجوعها إلى حالتها الأولى لما قبض عليها. وقيل: الثعبان الحية الذكر، ووصفه تعالى العصا - ههنا - بأنها صارت مثل الثعبان، لا ينافي قوله " كأنها جان " من وجوه:

أحدها: انه تعالى لم يقل، فإذا هي جان، كما وصفها بأنها ثعبان، وإنما شبهها بالجان، ولا يجوز أن تكون مثله على كل حال.

الثاني: انه وصفها بالثعبان في عظمها، وبالجان في سرعة حركتها، فكأنها مع كبرها في صفة الجان لسرعة الحركة، وذلك أبلغ في الاعجاز.

وثالثها: انه أراد أنها صارت مثل الجان في أول حالها، ثم تدرجت إلى أن صارت مثل الثعبان، وذلك أيضا أبلغ في باب الاعجاز.

ورابعها: ان الحالين مختلفان، لان إحداهما كانت حين ألقى موسى فصارت العصا كالثعبان، والحالة الأخرى حين أوحى الله إليه وناداه من الشجرة. ومعنى (مبين) قال ابن عباس: انه ثعبان لا شبهة فيه. وقيل: معناه مبين وجه الحجة به. وروي أنها غرزت ذنبها في الأرض ورفعت رأسها نحو الميل إلى السماء، ثم انحطت فجعلت رأس فرعون بين نابيها، وجعلت تقول: مرني بما شئت، فناداه فرعون أسألك بالذي أرسلك لما اخذتها، فاخذها، فعادت عصا، كما كانت - ذكره ابن عباس، والمنهال -. وقوله " ونزع يده " أي أخرجها من جيبه أو من كمه على ما روي. ويجوز أن يكون المراد حسر عن ذراعه. والمعنى أنه نزعها عن اللباس التي كان عليها. والنزع إخراج الشئ مما كان متصلا به، وملابسا له. وقوله " فإذا هي بيضاء " يعني بياضا نوريا كالشمس في إشراقها ﴿ للناظرين ﴾ إليها من غير برص، فقال فرعون عند ذلك لاشراف قومه الذين حوله ﴿ إن هذا ﴾ يعنى موسى ﴿ لساحر عليم ﴾ أي عالم بالسحر والحيل ﴿ يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره ﴾ قيل معناه يريد أن يخرج عبيدكم بني إسرائيل قهرا. ويحتمل أن يكون أراد يخرجكم من دياركم ويتغلب عليكم ﴿ فماذا تأمرون ﴾ في تأديبه، وإنما شاور قومه في ذلك مع أنه كان يقول لهم: انه إله، لأنه يجوز أن يكون ذهب عليه وعلى قومه أن الاله لا يجوز أن يشاور غيره، كما ذهب عليهم أن الاله لا يكون جسما محتاجا، فاعتقدوا إلهيته لما دعاهم إليها مع ظهور حاجته التي لا اشكال فيها، فقال لفرعون اشراف قومه الذين استشارهم " أرجه واخاه " أي أخرهما، فالارجاء التأخير، تقول: أرجأت الامر أرجئه إرجاء، وهم المرجئة، لأنهم قالوا بتأخير حكم الفساق في لزوم العقاب. وقيل: إنما أشاروا بتأخيره ولم يشيروا بقتله، لأنهم رأوا أن الناس يفتتنون به ان قتل، وإن السحرة إذا قاومته زال ذلك الافتتان، وكان له حينئذ عذر في قتله أو حبسه بحسب ما يراه. وقوله ﴿ وابعث في المدائن حاشرين ﴾ أي ارسل حاشرين يحشرون الناس من جميع البلدان. فالحشر السوق من جهات مختلفة إلى مكان واحد، حشره يحشره حشرا، فهو حاشر والشئ محشور، وانحشر الناس إلى مكان إذا اجتمعوا إليه. والسحر لطف الحيلة حتى يتوهم المموه عليه أنه حقيقة. وقوله ﴿ يأتوك ﴾ أي يجيئوك ﴿ بكل سحار ﴾ مبالغة فيمن يعمل بالسحر ﴿ عليم ﴾ أي عالم بالسحر، وفي الكلام حذف، لان تقديره إنه انفذ الحاشرين في المدائن وانهم حشروهم ﴿ فجمع السحرة ﴾ على ما قالوه ﴿ لميقات يوم معلوم ﴾ لوقت يوم بعينه اختاروه وعينوه ﴿ وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة ﴾ ان غلبوا موسى، فالغلبة الاستعلاء بالقوة: غلبة يغلبه غلبة إذا قهره، وتغلب تغليبا وغالبه مغالبة وتغالبا تغالبا. وقد يوصف المستعلي على غيره بالحجة بأنه غلبه.