الآيات 86-92
قوله تعالى: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا، لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾
القراءة:
قرأ الكسائي ونافع (يكاد) بالياء. الباقون بالتاء. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وحفص (يتفطرن) بياء وتاء من: : تفطر يتفطر تفطرا. الباقون (ينفطرن) من انفطر كقوله (إذا السماء انفطرت). وتفطر مطاوع فطر. والتشديد يفيد التكثير اخبر الله تعالى أنه يسوق المجرمين إلى جهنم وردا يوم القيامة. والسوق الحث على السير، ساقه يسوقه سوقا، فهو سائق ومنه الساق، لاستمرار السير بها، ومنه السوق لأنه يساق به البيع والشراء شيئا بعد شئ. وقال الفراء: يسوقهم مشاة. وقال الأخفش: عطاشا. وقيل افرادا. ومعنى (وردا) أي عطاشا. كالإبل التي ترد عطاشا الماء، إلا أن هؤلاء يمنعون منه، لأنه لا يشرب من الحوض الا مؤمن. وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة. وقوله (لا يملكون الشفاعة) أي لا يقدرون عليها، والملك القدرة على ماله التصرف فيه أن يصرفه أتم التصريف في الحقيقة أو الحكم. وقوله (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) أي عملا صالحا - في قول ابن جريج - فموضع (من) نصب على أنه استثناء منقطع، لان المؤمن ليس من المجرمين. وقد قيل: انه نصب على حذف اللام بمعنى لا يملك المتقون الشفاعة إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا. والعهد المراد به الايمان. والاقرار بوحدانيته وتصديق أنبيائه، فان الكفار لا يشفع لهم. وقال الزجاج (من) في موضع رفع بدلا من الواو والنون في قوله (لا يملكون الشفاعة). والمعنى لا يملك الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وهو الايمان. ثم اخبر تعالى عن الكفار بأنهم (قالوا اتخذ الرحمن ولدا) كما قال النصارى: إن المسيح ابن الله، واليهود قالت عزير ابن الله. فقال الله لهم على وجه القسم (لقد جئتم) بهذا القول (شيئا إدا) أي منكرا عظيما - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد، قال الراجز:
لقد لقي الاعداء مني نكرا * داهية دهياء إدا إمرا (1)
وقال الآخر: في لهب منه وحبل إد (2) ثم قال تعالى تعظيما لهذا القول " تكاد السماوات " وقرئ بالتاء والياء. فمن قرأ بالتاء فلتأنيث السماوات ومن ذكر، فلان التأنيث غير حقيقي. وقال أبو الحسن: معنى تكاد السماوات تريد كقوله " كدنا ليوسف " أي أردنا، وانشد:
كادت وكدت وتلك خير إرادة * لو عاد من لهو الصبابة ما مضى (3)
ومثله قوله تعالى (أكاد أخفيها) أي أريد ومعنى (تكاد) في الآية تقرب لان السماوات لا يجوز ان ينفطرن ولا يردن لذلك، ولكن هممن بذلك، وقربن منه اعظاما لقول المشركين. وقال قوم: معناه على وجه المثل، لان العرب تقول إذا أرادت امرا عظيما منكرا: كادت السماء تنشق والأرض تنخسف، وأن يقع السقف. فلما افتروا على الله الكذب، ضرب الله المثل لكذبهم بأهول الأشياء، وقريب من هذا قول الشاعر:
ألم تر صدعا في السماء مبينا * على ابن لبينى الحارث بن هشام (4)
وقريب منه أيضا قول الشاعر:
وأصبح بطن مكة مقشعرا * كان الأرض ليس بها هشام (5)
وقال آخر:
بكا حارث الجولان من فقد ربه * وحوران منه خاشع متضائل (6)
وقال آخر:
لما اتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع (7)
وقال قوم: المعنى لو كان شئ يتفطر استعظاما لما يجري من الباطل لتفطرت السماوات والأرض استعظاما، واستنكارا لما يضيفونه إلى الله تعالى من اتخاذ الولد، ومثله قوله " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " (8) ومعنى يتفطرن يتشققن والانفطار الانشقاق في قول ابن جريج، يقال: فطر ناب البعير إذا انشق، وقرئ ينفطرن بمعنى يتشققن منه، يعني من قولهم اتخذ الرحمن ولدا، والمراد بذلك تعظيما واستنكارا لهذا القول، وانه لو كانت السماوات يتفطرن تعظيما لقول باطل لانشقت لهذا القول، ولو كانت الجبال تخر لامر، لخرت لهذا القول. و (الهد) تهدم بشدة صوت. وقوله " أن دعوا للرحمن ولدا " أي لان دعوا، أو من أن دعوا، أو المعنى ان السماوات تكاد ينفطرن والجبال تنهد والأرض تنشق لدعواهم لله ولدا، أي لتسميتهم له ولدا، فهؤلاء سموا لله ولدا كما جعلوا المسيح ابن الله. والمشركون جعلوا الملائكة بنات الله. وقيل: معناه ان جعلوا للرحمن ولدا، لان الولد يستحيل عليه تعالى. ثم اخبر تعالى انه لا ينبغي له ان يتخذ ولدا، ولا يصلح له، كما يقال ابن احمر:
في رأس حلقاء من عنقاء مشرفة * ما ينبغي دونها سهل ولا جبل (9)
وقال الآخر في الدعاء بمعنى التسمية:
ألا رب من تدعوا نصيحا وإن تغب * تجده بغيب غير منتصح الصدر (10)
وقال ابن احمر أيضا:
هوى لها مشقصا حشرا فشبرقها * وكنت ادعوا قذاها الإثمد الفرد (11).
1- تفسير الطبري 16 / 86.
2- تفسير القرطبي 11 / 184 وهو في مجمع البيان 3 / 530.
3- مر هذا البيت في 6 / 307.
4- مجمع البيان 3 / 530.
5- مر تخريجه في 6 / 307.
6- مر تخريجه في 1 / 204، 312.
7- سورة 13 الرعد آية 33.
8- تفسير الطبري 16 / 56، 87.
9- تفسير الطبري 16 / 87.
10- تفسير الطبري 16 / 87.
11- سورة 2 البقرة آية 204.