الآيات 56-60

قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا، } وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله " اذكر في الكتاب " الذي هو القرآن " إدريس " وأخبر انه كان كثير التصديق بالحق، وكان " نبيا " معظما مبجلا مؤيدا بالمعجزات الباهرة. ثم أخبر تعالى أنه رفعه مكانا عليا. قال انس بن مالك: رفعه الله إلى السماء الرابعة. وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وبه قال كعب ومجاهد: وأبو سعيد الخدري. وقال ابن عباس والضحاك: رفعه الله إلى السماء السادسة. واصل الرفع جعل الشئ في جهة العلو، وهي نقيض السفل، يقال: رفعه يرفعه رفعا، فهو رافع وذاك مرفوع. والعلي العظيم العلو والعالي العظيم فيما يقدر به على الأمور، فلذلك وصف تعالى بأنه علي. والفرق بين العلي والرفيع أن العلي قد يكون بمعنى الاقتدار وعلو المكان. و (الرفيع) من رفع المكان لا غير. ولذلك لا يوصف تعالى بأنه رفيع. وقوله " رفيع الدرجات " (1) إنما وصف الدرجات بأنها رفيعة. وإنما أخذ من علو معنى الصفة بالاقتدار، لأنها بمنزلة العالي المكان. ثم اخبر تعالى عن الأنبياء الذين تقدم وصفهم فقال " أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين " فان حملنا (من) على التبعيض لم تدل على أن من عداهم لم ينعم عليهم، بل لا يمتنع أن يكون إنما أفردهم بأنه أنعم عليهم نعمة مخصوصة عظيمة رفيعة، وإن كان غيرهم أيضا قد أنعم عليهم بنعمة دونها. وإن حملنا (من) على أنها لتبيين الصفة لم يكن فيه شبهة، لان معنى الآية يكون أولئك الذين أنعم الله عليهم من جملة النبيين. وقوله " من ذرية آدم " (لان الله تعالى بعث رسلا ليسوا من ذرية آدم بل هم من الملائكة كما قال " يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس " (2) وقوله " وممن حملنا " في السفينة " مع نوح " أي أبوهم نوح وهو من ذرية آدم كما قال) (3) " ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل " يعنى يعقوب " وممن هدينا " هم إلى الطاعات فاهتدوا إليها واجتبيناهم اي اخترناهم واصطفيناهم " إذا تتلى عليهم آيات الرحمن " اي أعلامه وأدلته " خروا سجدا وبكيا " أي سجدوا له تعالى وبكوا، وبكى جمع باك ونصبهما على الحال، وتقديره: خروا ساجدين باكين. وبكي (فعول) ويجوز أن يكون جمع باك على (فعول). ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى البكاء. قال الزجاج: لا يجوز النصب على المصدر، لأنه عطف على قوله " سجدا ". وإنما فرق ذكر نسبهم، وكلهم لآدم، ليبين مراتبهم في شرف النسب، فكان لإدريس شرف القرب من آدم، لأنه جد نوح. وكان إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح، لأنه من ولد سام بن نوح. وكان إسماعيل وإسحاق ويعقوب من ذرية إبراهيم، لما تباعدوا من آدم حصل لهم شرف إبراهيم، وكان موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من ذرية إسرائيل، لان مريم من ذريته. وقيل إنما وصف الله صفة هؤلاء الأنبياء ليقتد بهم ويتبع اثارهم في اعمال الخير ثم اخبر تعالى انه خلف من بعد المذكورين خلف. والخلف - بفتح اللام - يستعمل في الصالحين، وبتسكين اللام في الطالح قال لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف كجلد الأجرب (4)

وقال الفراء والزجاج: يستعمل كل واحد منهما في الآخر. وفى الآية دلالة على أن المراد بالخلف من لم يكن صالحا، لأنه قال " أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات " وقال القرطي: تركوها. وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز: أخروها عن مواقيتها. وهو الذي رواه أصحابنا. وقال قوم خلف - بفتح اللام - إذا خلف من كان من أهله - وبسكون اللام - إذا كان من غير أهله. ثم قال تعالى " فسوف يلقون غيا " والغي الشر والخيبة - في قول ابن عباس وابن زيد - قال الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد الناس امره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (5)

اي من يخب. وقال عبد الله بن مسعود: الغي واد في جهنم. وقيل معناه يلقون مجازاة غيهم. ثم استثنى من جملتهم من يتوب فيما بعد ويرجع إلى الله ويؤمن به ويصدق أنبياءه، ويعمل الأعمال الصالحة من الواجبات والمندوبات، ويترك القبائح فان " أولئك يدخلون الجنة " من ضم الياء أراد أن الله يدخلهم الجنة بأن يأمرهم بدخولها، فضم لقوله " ولا يظلمون " ليتطابق اللفظان. ومن فتح الياء أراد أنهم يدخلون بأمر الله. والمعنيان واحد. وقوله " ولا يظلمون شيئا " معناه لا يبخسون شيئا من ثوابهم بل يوفر عليهم على التمام والوفاء.


1- سورة 22 الحج آية 75.

2- ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.

3- مر تخريجه 5 / 25 من هذا الكتاب.

4- مر هذا البيت في 2 / 312، 4 / 391، 5 / 548 6 / 336.

5- مر تخريجه في 2 / 132، 164، 230.