الآيات 46-50
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا، قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا، وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾
لما حكى الله تعالى ما قال إبراهيم لأبيه، وتوبيخه له على عبادة الأصنام، وتقريعه إياه على ذلك، حكي في هذه الآيات ما أجاب به أبوه، فإنه قال له يا إبراهيم " أراغب أنت عن آلهتي " ومعناه أزاهد في عبادة آلهتي، والرغبة اجتلاب الشئ لما فيه من المنفعة. والرغبة فيه نقيض الرغبة عنه. والترغيب الدعاء إلى الرغبة في الشئ. ثم قال له مهددا " لئن لم تنته " أي لم تمتنع من ذلك، يقال نهاه فانتهى. واصله النهاية، فالنهي زجر عن الخروج عن النهاية المذكورة. والتناهي بلوغ نهاية الحد. وقوله " لأرجمنك " قال الحسن: معناه لأرمينك بالحجارة حتى تباعد عني. وقال السدي وابن جريج والضحاك: معناه لأرمينك بالذم والعيب. وقوله " واهجرني مليا " قيل في معناه قولان:
قال الحسن ومجاهد: " مليا " دهرا (قال الفراء: ويقال: كنت عنده ملوة وملوة وملوة - بتثليث الميم - وملاوة بالفتح وملاوة بالضم أي) (1) دهرا ملاوة، وكله من طول المقام وبه قال سعيد بن جبير والسدي، وهو بمعنى الملاوة من الزمان وهو الطويل منه.
الثاني: قال ابن عباس وقتادة وعطية والضحاك: معنى " مليا " سويا سليما من عقوبتي، وهو من قولهم: فلان ملي بهذا الامر إذا كان كامل الامر فيه مضطلعا به، فقال له إبراهيم " سلام عليك " أي سلامة عليك، أي اكرام وبر بحق الأبوة وشكر التربية. وقال ذلك على وضع التواضع له ولين الجانب لموضعه " سأستغفر لك ربي " قال قوم: إنما وعده بالاستغفار على مقتضى العقل، ولم يكن قد استقر بعد قبح الاستغفار للمشركين. وقال قوم: معناه سأستغفر لك إذا تركت عبادة الأوثان وأخلصت العبادة لله تعالى. ومعنى قوله " انه كان بي حفيا " إن الله كان عالما بي لطيفا، والخفي اللطيف بعموم النعمة، يقال: تخفني فلان إذا أكرمني وألطفني، وحفي فلان بفلان حفاوة إذا أبره وألطفه. والحفى أذى يلحق باطن القدم للطفه عن المشي بغير نعل ثم قال " وأعتزلكم " أي أتنحى عنكم جانبا، واعتزل عبادة " ما تدعون من دون الله. وادعوا ربي " وحده (عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا). وقوله (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله) قيل إنه اعتزلهم بأن خرج إلى ناحية الشام (وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا) أي لما اعتزلهم آنسنا وحشته بأولاد كرام على الله رسل لله، وجعلناهم كلهم أنبياء معظمين (ووهبنا لهم من رحمتنا) أي من نعمتنا (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) قال ابن عباس والحسن: معناه الثناء الجميل الحسن من جميع أهل الملل، لان أهل الملل على اختلافهم يحسنون الثناء عليهم، وتقول العرب: جاءني لسان من فلان تعنى مدحه أو ذمه قال عامر ابن الحارث:
اني اتتني لسان لا اسربها * من علو لا عجب منها ولا سخر
جاءت مرجمة قد كنت احذرها * لو كان ينفعني الاشفاق والحذر (2)
وقيل: معناه انا جعلناهم رسل الله يصدقون عليه أعالي الصفات.
1- تفسير الطبري 16 / 62 وهو في مجمع البيان 3 / 516.
2- سورة 40 المؤمن آية 15.