الآيات 26-30

قوله تعالى: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا، فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾

لما قال جبرائيل لمريم " هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " قال لها بعد ذلك " فكلي " من ذلك الرطب " واشربي " من السري " وقري عينا " ونصبه على التمييز كقوله " فان طبن لكم عن شئ منه نفسا " (1) وقيل في معنا " قري عينا " قولان:

أحدهما: لتبرد عينك برد سرور بما ترى.

الثاني: لتسكن سكون سرور برؤيتها ما تحب، يقال قررت به عينا أقر قرورا وهي لغة قريش. وأهل نجد يقولون: قررت به عينا - بفتح العين - أقر قرارا، كما يقولون قررت بالمكان - بالفتح. وقوله (فاما ترين من البشر أحدا فقولي اني نذرت للرحمن صوما) قال الجبائي: كان الله تعالى أمرها بأن تنذر الله تعالى الصمت، فإذا كلمها أحد تومي بأنها نذرت صوما صمتا، لأنه لا يجوز ان يأمرها بان تخبر بأنها نذرت ولم تنذر، لان ذلك كذب. وقال انس بن مالك وابن عباس والضحاك: تريد بالصوم الصمت. وقال قتادة: يعني صمتا عن الطعام والشراب والكلام أي إمساكا. وإنما أمرها بالصمت ليكفيها الكلام ولدها بما يبرئ ساحتها - في قول ابن مسعود وابن زيد ووهب ابن منية وقيل: من كان صام في ذلك الوقت لا يكلم الناس، فاذن لها في هذا المقدار من الكلام، في قول السدي. فان قيل كيف تكون نذرت الصمت وألا تكلم أحدا مع قولها واخبارها عن نفسها بأنها نذرت وهل ذلك إلا تناقض؟قيل من قال: انه أذن لها في هذا القدر فحسب، يقول: انها نذرت لا تلكم بما زاد عليه. ومن قال: انها نذرت نذرا عاما، قال: أومت بذلك ولم تتلفظ به. وقيل: أمرها الله أن تشير إليهم بهذا المعنى، وانها ولدته بناحية بيت المقدس، وفى موضع يعرف ب? (بيت لحم). ثم اخبر الله تعالى عن حال مريم أنها أتت بعيسى إلى قومها تحمله، فلما رأوها قالوا لها " لقد جئت شيئا فريا " أي عملا عجيبا قال الراجز:

قد أطعمتني دقلا حوليا * مسوسا مدودا حجريا

قد كنت تفرين به الفريا (2)

قال قتادة ومجاهد والسدي: معنى الفري العظيم من الامر. وقيل الفري القبيح من الافتراء، فقال لها قومها " يا أخت هارون " وقيل في هارون الذي نسبت إليه بالاخوة أربعة أقوال: فقال قتادة: وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله: انه كان رجلا صالحا في بني إسرائيل ينسب إليه من عرف بالصلاح. وقال السدي: نسبت إلى هارون أخي موسى (ع) لأنها كانت من ولده كما يقال يا أخا بني فلان. وقال قوم: كان رجلا فاسقا معلنا بالفسق، فنسبت إليه. وقال الضحاك: كان أخاها لأبيها وأمها، وكان بنو إسرائيل يسمون أولادهم بأسماء الأنبياء كثيرا. وقوله " ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " اي لم يكن أبواك إلا صالحين، ولم يكونا فاجرين، فكيف خالفتيهما " فأشارت إليه " اي أومأت عند ذلك مريم إلى عيسى (ع) أن كلموه، واستشهدوه على براءة ساحتي " فقالوا " في جوابها " كيف نكلم من كان في المهد صبيا " قال قوم: دخلت (كان) ههنا زائدة ونصب (صبيا) على الحال. وانشد أبو عبيدة في زيادة (كان): إلى كناس كان مستعدة وقال آخر:

فكيف إذا رأيت ديار قومي * وجيران لنا كانوا كرام (3)

والمعنى وديار جيران كرام و (كانوا) فضلة، فلذلك لم تعمل. وقيل معنى (كان) صار وانشد لزهير:

أجزت إليه حرة أرجية * وقد كان لون الليل مثل الارندج

اي قد صار. وقال المبرد: معنى (كان) حدث. وقال الزجاج: معناه على الشرط، وتقديره من كان في المهد صبيا نكلمه على التقديم والتأخير. وقال قتادة: المهد حجر أمه، واصله ما وطئ للصبي. وقيل: انهم غضبوا عند إشارتها إلى ذلك وقالوا: لسخريتها بنا أشد علينا من زناها، فلما تكلم عيسى، قالوا: إن هذا الامر عظيم - ذكره السدي - فقال عيسى (ع) عند ذلك " اني عبد الله آتاني الكتاب " قال عكرمة: معناه فيما مضى " وجعلني نبيا " لان الله أكمل عقله وأرسله إلى عباده ولذلك كانت له تلك المعجزة - في قول الحسن وأبي علي الجبائي - وقال قوم: معناه " اني عبد الله " سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا فيما بعد، وكان ذلك معجزة لمريم على براءة ساحتها على قول من أجاز اظهار المعجزات على يد غير الأنبياء من الصالحين. وقال ابن الاخشاذ: كان ذلك إنذارا لنبوته. وقال الجبائي معنى " وجعلني نبيا " أي وجعلني رفيعا لان النبي هو الرفيع.


1- تفسير الطبري 16 / 51 والقرطبي 11 / 100.

2- قائله الفرزدق. ديوانه (دار بيروت) 2 / 290 وقد مر في 3 / 155 من هذا الكتاب.

3- سورة 18 الكهف آية 81.