الآيات 21-25

قوله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا، فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا، فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾

القراءة:

قرأ حمزة وحفص عن عاصم " نسيا " بفتح النون. الباقون بكسرها، وهما لغتان. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص " من تحتها " على أن (من) حرف جر. الباقون " من تحتها " يعني الذي تحتها قال أبو علي النحوي: ليس المراد بقوله " من تحتها " الجهة السفلى، وإنما المراد من دونها، بدلالة قوله " قد جعل ربك تحتك سريا " ولم يكن النهر محاذيا لهذه الجهة، وإنما المعنى جعل دونك. وقرأ " تساقط " - بالتاء وضمها، وكسر القاف مخففه السين - حفص عن عاصم. وقرأ حمزة " تساقط " بفتح التاء وتخفيف السين. الباقون، وهم ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم، بفتح التاء وتشديد السين وفتح القاف. وقرأ يعقوب والعليمي ونصير - بياء مفتوحة، وتشديد السين وفتح القاف - وكلهم جزم الطاء. حكى الله تعالى ما قال لها جبرائيل حين سمع تعجبها من هذه البشارة " قال كذلك " يعني الله تعالى قال ذلك " قال ربك هو علي هين " أي سهل متأت لا يشق علي ذلك " ولنجعله آية للناس " أي نجعل خلقه من غير ذكر آية باهرة، وعلامة ظاهرة للناس " ورحمة منا " أي ونجعله نعمة من عندنا " وكان أمرا مقضيا أي وكان خلق عيسى من غير ذكر أمرا قضاه الله وقدره وحتم كونه أي هو المحكوم بأنه يكون، وما قضاه الله بأنه كائن، فلابد من كونه. وقوله (فحملته) يعني حملت عيسى في بطنها، والحمل رفع الشئ من كأنه، وقد يكون رفع الانسان في مجلسه، فيخرج عن حد الحمل. ويقال له (حمل) بكسر الحاء لما يكون على الظهر، وبالفتح لما يكون في البطن (فانتبذت به مكانا قصيا) أي انفردت به مكانا بعيدا، ومعناه قاصيا، وهو خلاف الداني. قال الراجز:

لتقعدن مقعد القصي * مني كذي القاذورة المقلي (1)

يقال قصا المكان يقصوه قصوا إذا تباعد، وأقصيت الشئ إذا أبعدته، وأخرته اقصاء. وقوله " فأجاءها المخاض " أي جاء بها المخاض وهو مما يعدى تارة بالباء وأخرى بالألف. مثل ذهبت به وأذهبته وآتيتك بعمرو وآتيتك عمرا. وخرجت به وأخرجته قال زهير:

وجار سار معتمدا إليكم * أجاءته المخافة والرجاء (2)

أي جاءت به. قال الكسائي تميم تقول: ما أجاءك إلى هذا وما أشاء بك إليه. أي صيرك تشاء. ومن أمثالهم (شر أجاءك إلى مخة عرقوب) وتميم تقول: شر أشاءك إلى مخة عرقوب. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: معنى " فأجاءها " ألجأها. وقال السدي: إنها قالت في حال الطلق " يا ليتني مت قبل هذا " استحياء من الناس " وكنت نسيا منسيا " فالنسي الشئ المتروك حتى ينسى - بالفتح والكسر - مثل الوتر والوتر. وقيل النسي - بالفتح - المصدر، يقال: نسيت الشئ نسيا ونسيانا - وبالكسر - الاسم إذا كان لقي لا يؤبه به، وقيل النسي خرقة الحيض التي تلقيها المرأة، قال الشاعر:

كأن لها في الأرض نسيا تقصه * إذا ما غدت وإن تكالمك تبلت (3)

أي نسيا تركته، ومعنى (تبلت) أي تقطع كلامها رويدا رويدا وتقف وتصدق. وقوله " فناداها من تحتها " قال ابن عباس والسدي والضحاك وقتادة: المنادي كان جبرائيل (ع). وقال مجاهد والحسن ووهب بن منية، وسعيد بن جبير وابن زيد والجبائي: كان المنادي لها عيسى (ع). وقوله " ألا تحزني " أي لا تغتمي " قد جعل ربك تحتك سريا " قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: السري هو النهر الصغير. وقال قوم: هو النهر بالسريانية. وقال آخرون: هو بالنبطية. وقال إبراهيم والضحاك وقتادة: هو النهر الصغير بالعربية، مثل قول ابن عباس، وقال البراء بن عازب: هو الجدول وقال الحسن وابن زيد: السري عيسى (ع). وقيل للنهر (سري) لأنه يسري بجريانه كما قيل جدول لشدة جريه. قال لبيد:

فتوسطا عرض السري فصدعا * مسجورة متجاوز أقدامها (4)

وقال آخر:

سلم ترى الدالي منه ازورا * إذا يعج في السري هرهرا (5)

وقوله " وهزي إليك بجذع النخلة " معناه هزي النخلة إليك، ودخلت الباء تأكيدا، كما قال تعالى " تنبت بالدهن " (6) قال الشاعر: نضرب بالبيض ونرجوا بالفرج (7) أي نرجو الفرج، وقال آخر:

بواد يمان ينبت السدر صدره * وأسفله بالمرخ والشبهان (8)

وفى رواية ينبت الشث حوله. وقوله (تساقط عليك) من شدد، أراد تتساقط فادغم أحد التاءين في السين، ومن خفف حذف أحد التاءين. ومن قرأ - بالياء - أسند الفعل إلى الجذع ومن قرأ - بالتاء - أسنده إلى النخلة. ومن قرأ تساقط أراد من المساقطة. وقرأ أبو حيويه (تسقط عليك). وروي عنه (يسقط) وهو شاذ والمعاني متقاربة. وقال أبو علي: من قرأ (تساقط) عدى (فاعل) كما عدى (يتفاعل) وهو مطاوع (فاعل) قال الشاعر:

تطالعنا خيالات لسلمى * كما يتطالع الدين الغريم (9)

وانشد أبو عبيدة:

تخاطأت النبل أحشاءه * وأخر يومي فلم أعجل (10)

قال في موضع (أخطأت) كقوله (فان طبن لكم عن شئ منه نفسا) (11) ومعنى الآية يتواقع عليك رطبا جنيا. والجني المجني (فعيل) بمنى (مفعول) وهو المأخوذ من الثمرة الطرية، اجتناه اجتنا. إذا اقتطعه، قال ابن أخت جذيمة:

هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه (12)

وفي نصب (رطب) قولان:

أحدهما: قال المبرد: هو مفعول به، وتقديره هزي بجذع النخلة رطبا تساقط عليك.

وقال غيره: هو نصب على التمييز والعامل فيه تساقط. وقال أبو علي: يجوز أن يكون نصبا على الحال، وتقديره تساقط عليك ثمر النخلة رطبا، فحذف المضاف الذي هو الثمرة، ونصب رطبا على الحال. وقيل: لم يكن للنخلة رأس وكان في الشتاء، فجعله الله تعالى آية، وإنما تمنت الموت قبل تلك الحال التي قد علمت أنها من قضاء الله لكراهتها أن يعصى الله بسببها إذا كان الناس يتسرعون إلى القول فيها بما يسخط الله. وقال قوم: انها قالت ذلك بطبع البشرية خوف الفضيحة. وقال قوم: المعنى في ذلك اني لو خيرت قبل ذلك بين الفضيحة بالحمل والموت لاخترت الموت. واختلفوا في مدة حمل عيسى، فقال قوم: كان حمله ساعة ووضعت في الحال. وقال آخرون: حملت به ثمانية أشهر ولم يعش مولود لثمانية أشهر غيره (ع)، فكان ذلك آية له. وفي بعض الروايات أنه ولد لستة أشهر. وقوله " فأجاءها المخاض " يدل على طول مكث الحمل، فاما مقداره فلا دليل يقطع به.


1- ديوانه (دار بيروت) 13 وتفسير الشوكاني 3 / 317 والطبري 16 / 42 والقرطبي 11 / 72.

2- الطبري 16 / 44 ومجمع البيان 3 / 509.

3- تفسير الطبري 16 / 47 والقرطبي 11 / 94.

4- تفسير القرطبي 11 / 94 وروايته (يعب) بدل (يعج).

5- سورة 23 المؤمنون آية 20.

6- قائله النابغة الجعدي تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: 193.

7- تفسير الطبري 16 / 48.

8- البيت في مجمع البيان 3 / 507.

9- مر تخريجه في 6 / 472 من هذا الكتاب.

10- سورة 4 النساء آية 3.

11- تفسير الطبري 16 / 49.

12- سورة 4 النساء آية 3.