الآيات 51-60
قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ، فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ، هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ، لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ، سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ، وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " في شغل " خفيفة. الباقون بضم الغين مثقلة " وهما لغتان. وقرأ أبو جعفر " فكهون " بغير ألف حيث وقع، وافقه حفص والداحوني عن ابن ذكوان في (المطففين). وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما " في ضلل " على أنه جمع ظلة مثل ظلمة وظلم وتحفة وتحف، الباقون " في ظلال " مثل برمة وبرام، وقلة وقلال. وقيل: هو جمع ظل وضلال، وهو الكن، كما قال ﴿ يتفيؤ ظلاله ﴾ (1) وقال أبو عبيدة: هو جمع الظل أظلال. يقول الله تعالى مخبرا ﴿ ونفخ في الصور ﴾ وقيل: إن الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل فيخرج من جوفه صوت عظيم يميل العباد إليه، لأنه كالداعي لهم إلى نفسه. وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة مثل بسرة وبسر، ولو جعلوه مثل (ظلمة، وظلم) لقالوا: صور بفتح الواو، وهو مشتق من الميل، صاره يصوره صورا إذا أماله ومنه قوله ﴿ فصرهن إليك ﴾ (2) أي أملهن إليك ومنه الصورة، لأنها تميل إلى مثلها بالمشاكلة. وقوله ﴿ فإذا هم من الأجداث ﴾ وهو جمع جدث، وهو القبر، فلغة أهل العالية بالثاء، ولغة أهل السافلة بالفاء يقولون: جدف إلى ربهم ينسلون أي يسرعون والنسول الاسراع في الخروج كما قال الشاعر:
عسلان الذئب أمسى قاربا * برد الليل عليه فنسل (3)
يقال: نسل ينسل وينسل نسولا، قال امرؤ القيس:
وإن تك قد ساءتك مني خليقة * فسلي ثيابي من ثيابك تنسل (4)
وقال قتادة: الموتة بين النفختين. ثم حكى ما يقول الخلائق إذا حشروا، فإنهم ﴿ يقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ﴾ أي من حشرنا من منامنا الذي كنا فيه نياما، ثم يقولون ﴿ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ﴾ في ما أخبرونا عن هذا المقام وعن هذا البعث. فان قيل: هذا ينافي قول المسلمين الذين يقولون: الكافر يعذب في قبره، لأنه لو كان معذبا لما كان في المنام!. قيل: يحتمل أن يكون العذاب في القبر ولا يتصل إلى يوم البعث، فتكون النومة بين الحالين. يحتمل لو كان متصلا أن يكون ذلك عبارة عن عظم ما يشاهدونه ويحضرون فيه يوم القيامة، فكأنهم كانوا قبل ذلك في مرقد، وإن كانوا في عذاب لما كان قليلا بالإضافة إلى الحاضر. وقال قتادة: قوله ﴿ هذا ما وعد الرحمن ﴾ حكاية قول المؤمن. وقال ابن زيد والجبائي: هو قول الكفار، وهو أشبه بالظاهر، لأنه تعالى حكى عنهم انهم يقولون: يا ويلنا، والمؤمن لا يدعو بالويل لعلمه بماله من نعيم الجنة. وقال الفراء: هو من قول الملائكة. وقال تعالى مخبرا عن سرعة بعثهم وسرعة اجتماعهم ﴿ إن كانت إلا صيحة واحدة ﴾ والمعنى ليست المدة إلا مدة صيحة واحدة ﴿ فإذا هم جميع لدينا محضرون ﴾ ثم حكى تعالى ما يقوله - عزل وجل - يومئذ للخلائق فإنه يقول لهم ﴿ فاليوم لا تظلم نفس شيئا ﴾ أي لا ينقص من له حق من حقه شيئا من ثواب أو عوض أو غير ذلك، ولا يفعل به مالا يستحقه من العقاب بل الأمور جارية على العدل ﴿ ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾ ومعناه لا يجازى الانسان إلا على قدر عمله، إن كان عاملا بالطاعة جوزي بالثواب. وإن كان عاصيا جوزي بالعقاب على قدر عمله من غير زيادة عليه ولا نقصان، إلا أن يتفضل الله باسقاط عقابه. ثم قال تعالى ﴿ إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ﴾ يعني يشغلهم النعيم الذي يغمرهم بسرورهم به عن غيره. وقال ابن مسعود وابن عباس: الشغل كناية عن افتضاض الأبكار. وقيل استماع الألحان ﴿ فاكهون ﴾ قال ابن عباس: معناه فرحون. وقال مجاهد: عجبون، وقيل: ذو فاكهة، كما يقال لاحم شاحم أي ذو لحم وشحم، وعاسل ذو عسل، قال الحطيئة: وعززتني وزعمت انك لابن في الصيف تأمر (5) أي ذو لبن وتمر. وقيل: فاكه وفكه مثل حاذر وحذر. والفكه الذي يتمرى بالشئ. ثم اخبر عن حال أهل الجنة فقال ﴿ هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك ﴾ فالأزواج جمع زوجة وهي حرة الرجل الذي يحل له وطؤها. ويقال للمرأة زوج أيضا بغير هاء في الموضع الذي لا يلتبس بالذكر، والظلال الستار عن وهج الشمس وسمومها، فأهل الجنة في مثل ذلك الحال في الطيبة من الظلال الذي لا حر فيه ولا برد. وقيل: الظل الكن وجمعه ظلال. وقيل هو جمع ظلة وظلال، مثل قلة وقلال، ومن قرأ ظلل، فعلى وزن ظلمة وظلم، وقلة وقلل. والأرائك جمع أريكة وهي الوسادة، وجمعها وسائد، ويجمع أيضا أرك كقولهم سفينة وسفن وسفائن، وهذه جلسة الملوك العظماء من الناس. وقيل الأرائك الفرش، قال ذو الرمة:
خدودا جفت في السير حتى كأنما * يباشرن بالمعزاء مس الأرائك (6)
وقال عكرمة وقتادة: الأرائك الحجال على السرر ﴿ متكئون ﴾ فمتكئ مفتعل من توكأت، إلا أن الواو أبدلت تاء. ثم قال ﴿ لهم فيها ﴾ في الجنة ﴿ فاكهة، ولهم ما يدعون ﴾ أي ما يتمنون، وقال أبو عبيدة: يقول العرب: ادع على ما شئت أي تمن ما شئت، وقيل: معناه إن من ادعى شيئا فهو له بحكم الله تعالى، لأنه قد هذبت طباعهم، فلا يدعون إلا ما يحسن منهم. وقوله ﴿ سلام قولا من رب رحيم ﴾ معناه ولهم سلام قولا من رب رحيم يسمعونه من الله تعالى ويؤذنهم بدوام الامن والسلامة ودوامهما مع سبوغ النعمة والكرامة. ثم يقول للعصاة ﴿ امتازوا اليوم أيها المجرمون ﴾ ومعناه انفصلوا معاشر العصاة وامتازوا، الذين اجترموا وارتكبوا من المعاصي من جملة المؤمنين، وقال قتادة: معناه اعتزلوا معاشر العصاة عن كل خير، يقال تميز الشئ تميزا، وميزته تمييزا، وأنماز انميازا. ثم حكى ما يقول تعالى لهم فإنه يقول لهم ﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم ﴾ يعني على لسان أنبيائه ﴿ ان لا تعبدوا الشيطان ﴾ فجعل عبادتهم للأوثان بأمر الشيطان عبادة له ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ أي، وقلت لكم أن الشيطان لكم عدو مبين أي ظاهرة عداوته لكم.
1- سورة 16 النحل آية 48.
2- سورة 2 البقرة آية 260.
3- مر في 7 / 279.
4- مر في 7 / 279.
5- مجاز القرآن 2 / 164.
6- مجاز القرآن 1 / 401 و 2 / 164.