الآيات 4-6

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو والكسائي " يرثني " جزما على أنه جواب الامر. الباقون بالرفع على أنه صفة ل? (وليا). فمن رفع قال " وليا " نكرة فجعل " يرثني " صلة له، كما تقول أعرني دابة اركبها، ولو كان الاسم معرفة، لكان الاختيار الجزم، كقوله " فذروها تأكل في أرض الله " (1) والنكرة كقوله " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم " (2) وقال مجاهد: من جزم جاز ان يقف على " وليا ". ومن رفع لم يجز لأنه صلة، ولان المفسرين قالوا: تقديره " هب لي " الذي " يرثني " أي وارثا فكل ذلك يقوي الرفع. حكى الله تعالى ما نادى به زكريا ودعى ربه به، وهو أن قال " رب " أي يا رب وأصله ربي، وإنما حذف الياء تخفيفا وبقيت الكسرة تدل عليها " اني وهن العظم مني " أي ضعف، والوهن الضعف، وهو نقصان القوة، يقال وهن الرجل يهن وهنا إذا ضعف. ومنه قوله (لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون) (3) وإنما أضاف الوهن إلى العظم، لان العظم مع صلابته إذا كبر ضعف، وتناقص، فكيف باللحم والعصب. وقيل شكى البطش وهو قلة العطس وهو لا يكون إلا بالعظم. وقوله (واشتعل الرأس شيبا) معناه انتشر الشيب في الرأس، كما ينتشر شعاع النار، وهو من أحسن الاستعارات. والاشتعال انتشار شعاع النار، والشيب مخالطة الشعر الأبيض للأسود في الرأس وغيره من البدن، وهو مثل الشائب الذي يخالط الشئ من غيره (ولم أكن بدعائك رب شقيا) تمام حكاية ما دعا به زكريا، وانه قال لم أكن يا رب بدعائي إياك شقيا أي كنت أدعوك وحدك واعترف بتوحيدك. وقيل معناه اني إذا دعوتك أجبتني، والدعاء طلب الفعل من المدعو، وفي مقابلته الإجابة، كما أن في مقابلة الامر الطاعة. ويحتمل نصب " شيبا " أمرين:

أحدهما: أن يكون نصبا على المصدر كأنه قال شاب شيبا.

الثاني: التمييز كقولهم تصببت عرقا وامتلأت ماء وقوله " واني خفت الموالي من وارئى " قال مجاهد وأبو صالح، والسدي: الموالي ههنا العصبة. وقيل خفت الموالي بني عمي على الدين، لأنهم كانوا شرار بني إسرائيل، وإنما قيل لبني العم موالي لأنهم الذين يلونه في النسب بعد الصلب. وقيل معنى الموالي الأولياء ان يرثوا علمي دون من كل من نسلي وأنشدوا في أن الموالي بنو العم قول الشاعر:

مهلا نبي عمنا مهلا موالينا * لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا (4)

والمولى المعتق، والمعتق، والمولى الناصر، والمولى الولي والمولى الأولى. وروي عن عثمان أنه قرأ " واني خفت الموالي " بفتح الخاء وتشديد الفاء. وقوله " وكانت امرأتي عاقرا " يعني لا تلد، ويقال للمرأة التي لا تلد: عاقر والرجل الذي لا يولد له: عاقر قال الشاعر:

لبئس الفتى إن كنت اسود عاقرا * جبانا فما عذري لدى كل محضر (5)

والعقر في البدن الجرح ومنه اخذ العاقر، لأنه نقص أصل الخلقة إما بالجراحة، وإما بامتناع الولادة، ومنه العقار، لان فساده نقص لأصل المال. وقوله " يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " والميراث تركة الميت ما كان يملكه لمن بعده من مستحقيه بحكم الله فيه، يقال: ورث يرث إرثا وميراثا توارثوا توارثا وورثه توريثا، وأورثه علما ومالا. و (الآل) خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم إليه. وقد يرجع إليه أمرهم بالقرابة تارة وبالصحبة أخرى، وبالدين والموافقة، ومنه قيل (آل النبي) صلى الله عليه وآله. وقوله " يرثني ويرث من آل يعقوب " قال أبو صالح: معناه يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة. وقال الحسن يرثني العلم والنبوة، وقال مجاهد يرث علمه. وقال السدي: يرث نبوته ونبوة آل يعقوب، وكان آل يعقوب أخواله، وهو يعقوب ابن مأتان، وكان قيم الملك منهم، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى ابن عمران. قال مقاتل: يعقوب بن ما ثان أخو عمران أبي مريم، وهما ابنا ما ثان. وقوله " واجعله رب رضيا " والجعل على أربعة أقسام:

أحدها: بمعنى الاحداث كقولهم جعل البناء أي أحدثه.

الثاني: احداث ما يتغير به كقولهم: جعل الطين خزفا أي احدث ما به يتغير.

الثالث: ان يحدث فيه حكما كقولهم: جعل فلان فلانا فاسقا أي بما أحدث فيه من حكمه وتسميته.

الرابع: أن يحدث ما يدعوه إلى أن يفعل كقولهم: جعله يقتل زيدا اي بما أمره به ودعاه إلى قتله. ومعنى " واجعله رب رضيا " أي اجعل ذلك الولي الذي يرثني مرضيا عندك ممتثلا لأمرك عاملا بطاعتك. وفي الآية دلالة على أن الأنبياء يورثون المال بخلاف ما يقول من خالفنا انهم لا يورثون، لان زكريا صرح بدعائه وطلب من يرثه ويحجب نبي عمه وعصبته من الولد. وحقيقة الميراث انتقال ملك المورث إلى ورثته بعد موته بحكم الله. وحمل ذلك على العلم والنبوة على خلاف الظاهر، لان النبوة والعلم لا يورثان، لان النبوة تابعة للمصلحة لا مدخل للنسب فيها، والعلم موقوف على من يتعرض له ويتعلمه، على أن زكريا إنما سأل وليا من ولده يحجب مواليه من نبي عمه وعصبته من الميراث وذلك لا يليق إلا بالمال، لان النبوة والعلم لا يحجب الولد عنهما بحال، على أن اشتراطه ان يجعله (رضيا) لا يليق بالنبوة، لان النبي لا يكون إلا رضيا معصوما، فلا معنى لمسألته ذلك، وليس كذلك المال، لأنه يرثه الرضي وغير الرضي. واستدل المخالف بهذه الآية على أن البنت لا تحوز المال دون بني العم والعصبة، لان زكريا طلب وليا يمنع مواليه، ولم يطلب ولية. وهذا ليس بشئ، لان زكريا إنما طلب وليا، لان من طباع البشر الرغبة في الذكور دون الإناث من الأولاد، فلذلك طلب الذكر، على أنه قيل إن لفظ الولي يقع على الذكر والأنثى، فلا نسلم أنه طلب الذكر بل يقتضي الظاهر أنه طلب ولدا سواء كان ذكرا أو أنثى. والوراء الخلف والوراء القدام ممدود وكذلك الوراء ولد الولد ممدود. والورى مقصورا: داء في الجوف. والورى أيضا الخلق مقصور، وكلهم قرأ " ورائي " ممدودا ساكن الياء إلا ما رواه ابن مجاهد عن قنبل بفتح الياء مع المد، وروي عن شبل عن ابن كثير (ورأي) مقصورا مثل هداي بغير همز، وفتح الياء. قال أبو علي لا أعلم أحدا من أهل اللغة حكى القصر في هذه اللفظة، ولعلها لغة جاءت، وقد جاء في الشعر قصر الممدود، وقياسه رد الشئ إلى أصله، واللام في هذه الكلمة همزة، وليس من باب الورى. وقال أبو عبيدة وغيره " من ورائي " يعني من قدامي، ومثله " وكان وراءهم ملك " (6) أي بين أيديهم. وحكي عن الثوري وراء الرجل خلفه وقدامه. وقوله " ومن ورائه عذاب " (7) أي قدامه. وقوله " واني خفت الموالي " فان الخوف لا يكون من الأعيان وإنما يكون من معان فيها، فقولهم خفت الله أي خفت عقابه، وخفت الموالي خفت تضييعهم مالي وانفاقه في معصية الله.


1- سورة 9 (التوبة) آية 104.

2- سورة 3 (آل عمران) آية 139.

3- قد مر تخريجه انظر 3 / 187 من هذا الكتاب. والبيت في تفسير الشوكاني 3 / 311.

4- قائله عامر بن الطفيل ديوانه 64 وتفسير الشوكاني 3 / 311 والقرطبي 11 / 78 وتفسير الطبري 16 / 32 وغيرها.

5- سورة 18 (الكهف) آية 80.

6- سورة 14 (إبراهيم) آية 17.

7- آخر هذه السورة آية 98.