الآيات 21-30
قوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ، وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ، إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ، إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ، إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ، يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾
القراءة:
قرأ أبوا جعفر ﴿ ان كانت إلا صيحة ﴾ بالرفع في الموضعين جعلها اسم (كان). الباقون بالنصب على أنها خبر كان. لما حكى الله تعالى ما قال لهؤلاء الكفار الرجل الذي جاءهم من أقصى المدينة وأمرهم بأن يتبعوا الرسل قال لهم أيضا ﴿ اتبعوا ﴾ معاشر الكفار ﴿ من لا يسألكم أجرا ﴾ أي لا يطلب الاجر والجزاء والمكافأة على ما يدعوكم إليه ويحثكم عليه، وإنما يدعوكم نصيحة لكم ﴿ وهم ﴾ مع ذلك ﴿ مهتدون ﴾ إلى طريق الحق سالكون سبيله. ثم قال لهم الذي وعظهم وحثهم على طاعة الله واتباع رسله ﴿ ومالي لا أعبد الذي فطرني ﴾ ومعناه ولم لا أ عبد الله واتبع رسله، ومالي لا أعبد الذي فطرني، ومعناه ولم لا أ عبد الله الذي خلقني وابتداني وهداني ﴿ واليه ترجعون ﴾ أي الذي تردون إليه يوم القيامة حيث لا يملك الأمر والنهي غيره. ثم قال لهم منكرا على قومه عبادتهم غير الله ﴿ أأتخذ ﴾ أنا على قولكم ﴿ من دون الله ﴾ الذي فطرني وأنعم علي ﴿ آلهة ﴾ اعبدهم ؟! فهذه همزة الاستفهام والمراد بها الانكار، لأنه لا جواب لها على أصلهم إلا ما هو منكر في العقول ثم قال ﴿ إن يردني الرحمن بضر ﴾ معناه ان أراد الله إهلاكي والاضرار بي لا ينفعني شفاعة هذه الآلهة شيئا، ولا يقدرون على انقاذي من ذلك الضرر. ولا يغنون عني شيئا في هذا الباب. وإذا كانوا بهذه الصفة كيف يستحقون العبادة ؟! ثم قال ﴿ إني إذا لفي ضلال مبين ﴾ أي إذا لو فعلت ما تفعلونه وتدعون إليه من عبادة غير الله أكن في عدول عن الحق. والوجه في هذا الاحتجاج أن العبادة لا يستحقها إلا من أنعم بأصول النعم ويفعل من التفضل مالا يوازيه نعم منعم، فإذا كانت هذه الأصنام لا يصح فيها ذلك كيف تستحق العبادة ؟! ثم قال مخبرا عن نفسه مخاطبا لقومه ﴿ إني آمنت ﴾ أي صدقت ﴿ بربكم ﴾ الذي خلقكم وأخرجكم من العدم إلى الوجود ﴿ فاسمعون ﴾ مني هذا القول. وقيل: انه خاطب الرسل بهذا القول ليشهدوا له بذلك عند الله. وقال ابن مسعود: إن قومه لما سمعوا منه هذا القول وطؤه بأرجلهم حتى مات. وقال قتادة: رجموه حتى قتلوه. وقال الحسن: لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إليه فهو في الجنة، ولا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة. قال مجاهد: مثل ذلك. وقالا الجنة التي دخلها يجوز هلاكها. وقال قوم: إنهم قتلوه إلا أن الله أحياه وادخله الجنة وقال الحسن ﴿ من بعده ﴾ يعني من بعد رفعه. وقال غيره: من بعد قتله. ثم حكى الله تعالى ما يقول الملائكة لهذا الداعي من البشارة له بعد موته فإنهم يقولون له ﴿ ادخل الجنة ﴾ مثابا مستحقا للثواب الجزيل على إيمانك بالله فيقول حينئذ ﴿ يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي ﴾ من الذنوب ﴿ وجعلني من المكرمين ﴾ عنده. فهذا المؤمن تمنى أن يعلم قومه بما أعطاه الله تعالى فيرغبوا فيه ويؤمنوا به لينالوا مثله. والاكرام هو اعطاء المنزلة الرفيعة على وجه التعظيم والتبجيل. وقد فاز من أكرمه الله بالرضوان، كما قال تعالى ﴿ ورضوان من الله أكبر) ﴿) لأنه سبب يؤدي إلى الجنة. ثم حكى ما قال وانزل بهؤلاء الكفار من العذاب والاستئصال، فقال ﴿ وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء ﴾ أي كان إهلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر: صيحة واحدة حتى صاروا خامدين ذكره ابن مسعود ومعنى " خامدين " هالكين بتلف أنفسهم، والمعنى إنا لم نستعن على إهلاكهم بانزال الجند من السماء " وما كنا منزلين " لهم ليهلكوهم، وما كان إهلاكهم " إلا صيحة واحدة " عظيمة فحين سمعوها هلكوا من عظمها، وماتوا من فزعها. وقوله " يا حسرة على العباد " قيل: هو قول الذي جاء من أقصى المدينة - ذكره البلخي - وقال غيره: معناه يحتمل شيئين:
أحدهما: يا حسرة من العباد على أنفسهم - ذكره قتادة ومجاهد -.
الثاني: انهم قد حلوا محل من يتحسر عليه. وقال ابن عباس: معناه يا ويلا للعباد " ما يأتيهم من رسول " أي ليس يأتيهم من رسول من عند الله " إلا كانوا به يستهزؤون " أي يسخرون منه ويهزؤون به، والذي حكى الله تعالى عنه مخاطبا قومه هو ما قدمنا ذكره: حبيب بن مري - في أقوال المفسرين.