الآيات 78-82
قوله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾
القراءة:
قرأ أهل المدينة وأبو عمرو " أن يبدلهما " - بفتح الياء وتشديد الدال - هنا - وفى التحريم " أن يبدله " وفي نون " أن يبدلنا " بالتشديد فيهن. الباقون بالتخفيف. فاما التي في سورة النور " وليبدلنهم " فخففها ابن كثير وأبو بكر ويعقوب. وشدده الباقون. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب " رحما " بضم الحاء الباقون باسكانها. وروى العبسي (ما لم تسطع) بتشديد الطاء. الباقون بتخفيفها. قال أبو علي (بدل، وأبدل) متقاربان مثل (نزل، وانزل) إلا أن (بدل) ينبغي أن يكون أرجح، لقوله تعالى " لا تبديل لكلمات الله " (1) ولم يجئ الابدال كما جاء التبديل، ولم يجئ الابدال في موضع من القرآن، وقد جاء " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " (2) فهذا قد يكون بمعنى الابدال كما أن قوله الشاعر: فلم يستجبه عنك ذاك مجيب (3) بمعنى فلم يجبه. وقال قوم: أبدلت الشئ من الشئ إذا أزلت الأول وجعلت الثاني مكانه. كقول أبي النجم: عزل الأمير للأمير المبدل (4) وبدلت الشئ من الشئ إذا غيرت حاله وعينه. والأصل باق، كقولهم بدلت قميصي جبة، واستدلوا بقوله " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها " (5) فالجلد الثاني هو الأول، ولو كان غيره لم يجز عقابه. واما (رحم ورحم) فلغتان مثل العمر والعمر، والرعب والرعب. وحكي لغة ثالثة - بفتح الراء واسكان الحاء - كما يقال: أطال الله عمرك وعمرك. والمعنى وأقرب رحمة وعطفا، وقربى وقرابة قال الشاعر: ولم تعوج رحم من تعوجا (6) وقال آخر: يا منزل الرحم على إدريس (7) حكى الله تعالى عن صاحب موسى أنه قال له " هذا فراق بيني وبينك " ومعناه هذا وقت فراق اتصال ما بيني وبينك، فكرر (بين) تأكيدا، كما يقال: أخزى الله الكاذب مني ومنك أي أخزى الله الكاذب منا. وقيل في " هذا " انها إشارة إلى أحد شيئين:
أحدهما: هذا الذي قلته فراق بيني وبينك.
الثاني: هذا الوقت فراق بيني وبينك. ثم قال له " سأنبئك " أي سأخبرك " بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " ولم يخف عليك رؤيته، ثم بين واحدا واحدا، فقال " اما " السبب في خرقي " السفينة " انها " كانت لمساكين " أي للفقراء الذين لا شئ لهم يكفيهم، قد أسلمتهم قلة ذات أيديهم " يعملون في البحر " أي يعملون بها في البحر ويتعيشون بها " فأردت أن أعيبها " والسبب في ذلك أنه " كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا " فقيل إن الملك كان يأخذ السفينة الصحيحة، ولا يأخذها إذا كانت معيبة. وقد قرئ في الشواذ " يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا " روى ذلك عن أبي، وابن مسعود. والوراء والخلف واحد، وهو نقيض جهة القدام على مقابلتها. وقال قتادة: وراءهم - ههنا - بمعنى أمامهم. ومنه قوله " من ورائهم جهنم " (8) و " من ورائهم برزخ " (9) وذلك جائز على الاتساع، لأنها جهة مقابلة لجهة، فكأن كل واحد من الجهتين وراء الآخر قال لبيد:
أليس ورائي ان تراخت منيتي * لزوم العصا تحنو عليها الأصابع (10)
وقال آخر:
أيرجوا بنو مروان سمعي وطاعتي * وقومي تميم والفلاة ورائيا (11)
وقال الفراء: يجوز ذلك في الزمان دون الأجسام، تقول: البرد والحر وراءنا ولا تقول: زيد وراءك. وقال الرماني وغيره: يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر. وقرأ ابن عباس " وكان أمامهم ملك " وقال الزجاج (وراءهم) خلفهم، لأنه كان رجوعهم عليه. ولم يعلموا به. ثم قال " وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا " وقيل: إن قوله " فخشينا " من قول الخضر. وقيل: انه من قول الله تعالى، ومعناه علمنا. وقيل: معنى خشينا كرهنا، فبين أن الوجه في قتله ما لأبويه من المصلحة في ثبات الدين، لأنه لو بقي حيا لأرهقهما طغيانا وكفرا أي أوقعهما فيه، فيكون ذلك مفسدة، فأمر الله بقتله لذلك، كما لو أماته. وفى قراءة أبي " واما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ". ثم قال " فأردنا أن يبدلهما " يعني أن يبدل الله لأبويه خيرا من هذا الغلام (زكاة) يعنى صلاحا وطهارة (وأقرب رحما) أي أبر بوالديه من المقتول - في قول قتادة - يقال: رحمه رحمة ورحما. وقيل: الرحم والرحم القرابة قال الشاعر: ولم يعوج رحم من تعوجا (12) وقال آخر: وكيف بظلم جارية ومنها اللين والرحم (13) وقيل معناه وأقرب أن يرحما به. ثم أخبر الخضر عن الحال الجدار الذي اقامه وأعلم انه (كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما) فقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: كانت صحف من علم. وقال الحسن: كان لوحا من ذهب مكتوب فيه الحكم. وقال قتادة وعكرمة: كان كنز مال. والكنز في اللغة هو كل مال مذخور من ذهب وفضة وغير ذلك. وقوله " وكان أبوهما صالحا " يعني أبا اليتيمين فأراد الله " أن يبلغا أشدهما " يعنى كما لهما من الاحتلام وقوة العقل " ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك " أي نعمة من ربك. ثم قال صاحب موسى: وما فعلت ذلك من قبل نفسي وأمري بل بأمر الله فعلت. ثم قال " ذلك " الذي قلته لك " تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " وثقل عليك مشاهدته واستبشعته. وفي الآية دلالة على وجوب اللطف، لان مفهومه أنه تدبير من الله في عباده لم يكن يجوز خلافه، وقد عظم الله شأنه بما يفهم منه هذا المعنى. وقال الجبائي: لا يجوز أن يكون صاحب موسى الخضر، لان خضرا كان من الأنبياء الذين بعثهم الله من بني إسرائيل بعد موسى. قال: ولا يجوز أيضا أن يبقى الخضر إلى وقتنا هذا، كما يقوله من لا يدري، لأنه لا نبي بعد نبينا، ولأنه لو كان لعرفه الناس، ولم يخف مكانه. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لأنا لا نعلم أولا أن خضرا كان نبيا، ولو ثبت ذلك لم يمتنع أن يبقى إلى وقتنا هذا، لان تبقيته في مقدور الله تعالى، ولا يؤدي إلى أنه نبي بعد نبينا، لان نبوته كانت ثابتة قبل نبينا. وشرعه - إن كان شرعا خاصا - انه منسوخ بشرع نبينا. وإن كان يدعو إلى شرع موسى أو من تقدم من الأنبياء، فان جميعه منسوخ بشرع نبينا صلى الله عليه وآله فلا يؤدي ذلك إلى ما قال. وقوله: لو كان باقيا لرؤي ولعرف غير صحيح، لأنه لا يمتنع أن يكون بحيث لا يتعرف إلى أحد، فهم وإن شاهدوه لا يعرفونه. وفى الناس من قال: إن موسى الذي صحب الخضر ليس هو موسى بن عمران وإنما هو بن ميشا، رجل من بني إسرائيل. والله أعلم بذلك. وروي عن جعفر بن محمد (ع) في قوله تعالى " وكان تحته كنز لهما " قال: سطران ونصف ولم يتم الثالث، وهي (عجبا للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبا للموقن بالحساب كيف يغفل وعجبا للموقن بالموت كيف يفرح) وفى بعض الروايات زيادة على ذلك (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) وذكر أنهما حفظا، لصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح. وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان سياحا. واستشهد على أن الخشية بمعنى العلم بقوله تعالى " إلا أن يخافا الا يقيما حدود الله " (14) وقوله " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا " (15) أي علمت. واستشهد على أنه بمعنى الكراهية بقول الشاعر:
يا فقعسي لم اكلته لمه * لو خافك الله عليه حرمه (16)
قال قطرب يريد لو كره أن تأكله لحرمه عليك.
1- مر هذا البيت كاملا في 1 / 36، 86 و 2 / 131 و 3 / 88 و 4 / 182 و 5 / 119 و 6 / 233.
2- تفسير الطبري 18 / 110.
3- سورة 4 - النساء - آية 55.
4- تفسير الطبري 16 / 4.
5- مجمع البيان 3 / 485 وبعده (ومنزل اللعن على إبليس). وهو في القرطبي 18 / 37 إديسا، إبليسا).
6- سورة 45 الجاثية آية 9.
7- سورة 23 المؤمنون آية 101.
8- البيت في مجمع البيان 3 / 467.
9- قائله سوار بن المضرب. تفسير الطبري 16 / 2 وتفسير القرطبي 11 / 35، وأكثر كتب النحو.
10- تفسير الطبري 6 / 4.
11- تفسير القرطبي 11 / 37.
12- سورة 2 البقرة آية 229.
13- سورة 4 النساء آية 124.
14- مر هذا الرجز في 2 / 245 من هذا الكتاب.
15- سورة 28 (القصص) آية 42.
16- سورة 11 (هود) آية 60.