الآيات 75-77
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا، قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا، فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾
المعنى:
معنى قوله " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " تحقيق ما قال له أولا مع نهيه عن العود لمثل سؤاله، لأنه لا يجوز أن يكون توبيخا، لأنه جار مجرى الذم في أنه لا يجوز على الأنبياء (ع) فقال له موسى في الجواب عن ذلك " ان سألتك " أي ان استخبرتك عن شئ تعمله بعد هذا " فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا " ومعناه إقرار من موسى بأن صاحبه قد قدم إليه ما يوجب العذر عنده، فلا يلزمه ما أنكره. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه تلا هذه الآية، فقال: (استحيى نبي الله موسى). والعذر وجود ما يسقط اللوم من غير جهة التكفير بتوبة واجتناب كبير لوقوع سهو لم يتعرض له. وفي (لدن) خمس قراءات:
فقرأ: ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بالتثقيل.
الثاني: بضم الدال وتخفيف النون قرأ به نافع.
الثالث: قرأ أبو بكر بضم اللام وسكون الدال واشمام من غير اشباع، الرابع - قرأ الكسائي عن أبي بكر بضم اللام وسكون الدال. الخامس - في رواية عن أبي بكر بفتح اللام وسكون الدال، وهذه كلها لغات معروفة. ثم أخبر الله تعالى عنهما أيضا أنهما مضيا حتى " أتيا أهل قرية استطعما أهلها " أي طلبا منهم ما يأكلانه فامتنعوا من تضييفهما " فوجدا فيها " يعني القرية " جدارا " يريد ان ينقض. فأقامه " ومعناه وجدا حائطا قارب أن ينقض فشبهه بحال من يريد أن يفعل في التباني، كما قال الشاعر:
يريد الرمح صدر أبي براء * ويرغب عن دماء بني عقيل (1)
ومثله تراني آثارهما، ودار فلان ينظر إلى دار فلان. وقال سعيد بن جبير: معنى قوله " فأقامه " انه رفع الجدار بيده فاستقام. والانقضاض السقوط بسرعة، يقال انقضت الدار إذا سقطت وتهدمت قال ذو الرمة: فانقض كالكوكب الدري منصلتا فقال له موسى " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " وقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو " لاتخذت " الباقون " لاتخذت " يقال: تخذ يتخذ بالتخفيف قال الشاعر:
وقد تخذت رجلي لدى جنب غرزها * نسيفا كافحوص القطاة المطرق (2)
المطرق التي تريد أن تبيض، وقد تعسر عليها، والافحوص والمفحص عش الطائر، وابن كثير يظهر الذال، وأبو عمرو يدغم. والباقون على وزن (افتعلت) مثل اتقى يتقي. وقد حكي تقى يتقي خفيفا، قال الشاعر:
جلاها الصيقلون فاخلصوها * خفافا كلها يتقى باثر
ومن ادغم فلقرب مخرجيهما ومن اظهر فلتغاير مخرجيهما وقال الفراء في قوله " لو شئت " قال موسى لو شئت لم تقمه حتى يقرونا، فهو الاجر وأنشدوا في " يريد أن ينقض " قول الشاعر:
إن دهرا يلف شملي بجمل * لزمان يهم بالاحسان (3)
أي كأنه يهم، وإنما هو سبب الاحسان المؤدي إليه وقال آخر:
يشكو إلى جملي طول السرى * صبرا جميلا فكلانا مبتلى (4)
والجمل لم يشك شيئا. وقال عنترة: وشكا إلي بعبرة وتحتحم (5) وكل ذلك يراد به ما ظهر من الامارة الدالة على المعاني.
1- تفسير الطبري 15 / 171 والقرطبي 11 / 26 ومجمع البيان 3 / 487.
2- مر هذا البيت في 6 / 112 من هذا الكتاب.
3- ديوانه 30 من معلقته. وتفسير الطبري 15 / 172.
4- سورة 10 - يونس - آية 64.
5- سورة 4 - النساء - آية 19.