الآيات 71-74

قوله تعالى: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة إلا عاصما " ليغرق أهلها " بالياء، ورفع أهلها. الباقون بالتاء ونصب الأهل. فمن قرأ بالتاء ونصب الأهل، فلقوله " أخرقتها لتغرق " بذلك " أهلها " أي فعلت ذلك وغرضك اهلاك أهلها على وجه الانكار. ومن قرأ بالياء أسند الغرق إلى الأهل، فكأنه قال: فعلت ذلك ليغرقوا هم. وقرأ أهل الكوفة وابن عامر " زكية " بلا الف. وقرأ الباقون زاكية بألف. وقرأ ابن عامر ونافع - في رواية الأصمعي عنه وأبو بكر عن عاصم - " نكرا " بضم النون والكاف. الباقون بتخفيف الكاف. قال الكسائي (زاكية، وزكية) لغتان مثل قاسية وقسية. قال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب قط، والزكية التي إذا أذنبت تابت، و (النكر) بالتثقيل والتخفيف لغتان مثل الرعب والرعب. اخبر الله تعالى عن موسى (ع) وصاحبه الذي تبعه ليتعلم منه أنهما ذهبا حتى إذا بلغا البحر، فركبا في السفينة فخرق صاحبه السفينة أي شق فيها شقا، لما أعلمه الله من المصلحة في ذلك، فقال له موسى منكر لذلك على ظاهر الحال: " أخرقتها لتغرق أهلها " أي غرضك بذلك أن تغرق أهلها الذين ركبوها. ويحتمل أن يكون قال ذلك مستفهما أي فعلت ذلك لتغرق أهلها أم لغير ذلك. والأول أقوى لقوله بعد ذلك " لقد جئت شيئا امرا " فالامر المنكر - في قول مجاهد وقتادة - وقال أبو عبيدة: داهية عظيمة وانشد:

لقد لقي الاقرآن منه نكرا * داهية دهياء إدا إمرا (1)

ومن سكن (النكر) فعلى لغة من سكن (رسل). و (الامر) مأخوذ من الامر، لأنه الفاسد الذي يحتاج أن يؤمر بتركه إلى الصلاح، ومنه رجل أمر إذا كان ضعيف الرأي، لأنه يحتاج أن يؤمر حتى يقوي رأيه. ومنه آمر القوم إذا كثروا حتى احتاجوا إلى من يأمرهم وينهاهم، ومنه الامر من الأمور أي الشئ الذي من شأنه ان يؤمر فيه، ولهذا لم يكن كل شئ أمرا. فقال له الخضر " ألم أقل لك " فيما قبل " انك لن تستطيع معي صبرا " أي لا يخف عليك ما تشاهده من أفعالي ويثقل عليك، لأنك لا تعرف المصلحة فيه، ولم يرد بالاستطاعة المقدرة، لان موسى كان قادرا في حال ما خاطبه بذلك، ولم يكن عاجزا، وهذا كما يقول الواحد منا لغيره أنا لا أستطيع النظر إليك، وإنما يريد أنه يثقل علي، دون نفي القدرة في ذلك. فقال له موسى في الجواب عن ذلك " لا تؤاخذني بما نسيت " وروي أنه قال ذلك لما رأى الماء لا يدخل السفينة مع خرقها. فعلم أن ذلك لمصلحة يريدها الله، فقال " لا تؤاخذني بما نسيت " وقيل في معنى نسيت ثلاثة أقوال:

أحدها: ما حكي عن أبي بن كعب، أنه قال: معناه بما غفلت من النسيان الذي هو ضد الذكر.

الثاني: ما روي عن ابن عباس أنه قال معناه: بما تركت من عهدك.

الثالث: لا تؤاخذني بما كأني نسيته، ولم ينسه في الحقيقة - في رواية أخرى - عن أبي بن كعب الأنصاري. وقوله " ولا ترهقني من أمري عسرا " قيل معناه لا تغشني، من قولهم رهقه الفارس إذا غشيه وادركه، وغلام مراهق إذا قارب أن يغشاه حال البلوغ. والارهاق ادراك الشئ بما يغشاه. وقيل معنى أرهقه الامر إذا ألحقه إياه. ثم أخبر تعالى انهما مضيا " حتى إذا لقيا غلاما " أي رأيا غلاما " فقتله " قال له موسى " أقتلت نفسا زاكية " ومعناه طاهرة من الذنوب. ومن قرأ " زكية " فمعناه بريئة من الذنوب. وذلك انها كانت صغيرة لم تبلغ حد التكليف على ما روي في الاخبار. وقوله " بغير نفس " أي بغير قود، ثم قال له " لقد جئت شيئا نكرا " أي منكرا. وقيل معناه جئت بما ينبغي أن ينكر، وقال قتادة النكر أشد من الامر، وإنما قيل لما لا يجوز فعله منكرا، لأنه مما تنكر صحته العقول ولا تعرفه.


1- مجاز القرآن 1 / 411 وتفسير الطبري 15 / 172 والأصمعيات 47 واللسان والتاج (فحص، طرق، نسف).