الآيات 53-55
قوله تعالى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة " قبلا " بضم القاف والباء. الباقون بكسر القاف وفتح الياء. فمن قرأ بضم القاف والباء أراد جمع قبيل نحو قميص وقمص. وقال قوم: القبيلة بنو أب. والقبيل يعبر بها عن الجماعة وإن اختلفت أنسابهم واحتجوا بقول النابغة:
جوانح قد أيقن ان قبيله * إذا ما التقى الجمعان أول غالب (1)
وجمع القبيلة قبائل. والقبائل أيضا قبائل الرأس، وهي عروق مجرى الدمع من الرأس، وسمي أيضا شئونا، واحدها شأن. ومن قرأ بكسر القاف وفتح الباء أراد مقابلة، أي معاينة. ويحتمل أيضا الضم، ذلك، ذكره الفراء والزجاج، وهما لغتان. اخبر الله تعالى عن المجرمين والعصاة أنهم إذا شاهدوا نار جهنم ورأوها " فظنوا " اي علموا " انهم مواقعوها " ولم يجدوا عن دخولها معدلا ولا مصرفا، لان معارفهم ضرورية، فالظن ههنا بمعنى العلم. وقد يكون الظن غير العلم، وهو ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه أن يكون على خلافه. والاجرام قطع العمل إلى الفساد. واصله القطع، يقال: هذا زمن الجرام أي زمن الصرام يعني زمان قطع الثمرة عن النخل. والمواقعة ملابسة الشئ، بشدة، ومنه وقائع الحروب وأوقع به ايقاعا. وتواقعوا تواقعا. والتوقع الترقب لوقوع الشئ، والمصرف المعدول. وهو موضع الذي يعدل إليه، صرفه عن كذا يصر صرفا. والموضع مصرف قال أبو كثير:
ازهير هل عن شيبة من مصرف * أم لا خلود لباذل متكلف (2)
وقوله " ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل " اخبار من الله تعالى انه نقل المعاني في الجهات المختلفة في هذا القرآن، فتصريف المثل فيه تنقيله في وجوه البيان على تمكين الافهام. والمعنى بينا للناس من كل مثل يحتاجون إليه. ثم اخبر تعالى عن حال الانسان فقال " وكان الانسان أكثر شئ جدلا " أي خصومة. والجدل شدة الفتل عن المذهب بطريق الحجاج. واصله الشدة، ومنه الأجدل الصقر لشدته، وسير مجدول شديد الفتل. وقوله " وما منع الناس ان يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين " معناه ما منعهم من الايمان بعد مجئ الدلالة وان يستغفروا ربهم على سبق من معاصيهم إلا طلب ان يأتيهم سنة الأولين، من مجئ العذاب من حيث لا يشعرون، أو مقابلة من حيث يرون. وإنما هم بامتناعهم من الايمان بمنزلة من يطلب هذا حتى يؤمن كرها، لأنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، كما يقول القائل لغيره ما منعك ان تقبل قولي إلا أن تضرب، إلا انك لم تضرب، لان مشركي العرب طلبوا مثل ذلك، فقالوا " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم " (3).
1- سورة 8 الأنفال آية 32.
2- تفسير الطبري 15 / 61.
3- سورة 31 - لقمان آية 7.