الآيات 50-52
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا، وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا﴾
القراءة:
قرأ حمزة وحده " ويوم نقول " بالنون، على أن الله تعالى هو المخبر عن نفسه بذلك، لأنه قال قبل ذلك " وما كنت متخذ المضلين عضدا، ويوم نقول " حمله على ما تقدم، والجمع والافراد بذلك المعنى. الباقون بالياء، بمعنى قل يا محمد يوم يقول الله أين شركائي الذين زعمتم، ولو كان بالنون لكان الأشبه بما بعده أن يكون جمعا، فيقول شركاؤنا، فأما قوله " الذين زعمتم " فالراجع إلى الموصول محذوف، والمعنى الذين زعمتموهم إياهم أي زعمتموهم شركاء، فحذف الراجع من الصلة، ولابد من تقديره كقوله " أهذا الذي بعث الله رسولا " (1) يقول الله تعالى لنبيه واذكر الوقت الذي قال الله فيه " للملائكة اسجدوا لآدم " وانهم " سجدوا إلا إبليس " وقد فسرناه فيما تقدم. (2) وقيل: إنما كرر هذا القول في القرآن لأجل ما بعده مما يحتاج إلى اتصاله به، فهو كالمعنى الذي يفيد أمرا في مواضع كثيرة، والاخبار عنه باخبار مختلفة، كقولهم برهان كذا كذا وبرهان كذا كذا، للمعنى الذي يحتاج إلى احكامه في أمور كثيرة. وقوله " كان من الجن " قيل معناه صار من الجن المخالفين لامر الله. وقال قوم: ذلك يدل على أنه لم يكن من الملائكة، لان الجن جنس غير الملائكة، كما أن الانس غير جنس الملائكة والجن، ومن زعم أنه كان من الملائكة يقول: معنى كان من الجن يعنى من الذين يستترون عن الابصار (3) لأنه مأخوذ من الجن وهو الستر، ومنه المجن لأنه يستر الانسان. وقال ابن عباس: نسب إلى الجنان التي كان فيها، كقولك كوفي وبصري، وقال قوم: بل كانت قبيلته التي كان فيها يقال لهم الجن، وهم سبط من الملائكة، فنسب إليهم. وقال ابن عباس: لو لم يكن إبليس في الملائكة ما أمر بالسجود. وقال وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى " كان من الجن " قال: كان إبليس من الملائكة فلما عصى لعن فصار شيطانا. ومن قال إن إبليس له ذرية والملائكة لا ذرية لهم ولا يتناكحون ولا يتناسلون عول على خبر غير معلوم. فأما الأكل والشرب ففي الملائكة ولو علم أنه مفقود، فانا لا نعلم أن إبليس كان يأكل ويشرب، فأما من قال إن الملائكة رسل الله، ولا يجوز عليهم أن يرتدوا. فلا نسلم لهم أن جميع الملائكة رسل الله، وكيف نسلم ذلك، وقد قال الله تعالى " الله يصطفى من الملائكة رسلا " (4) فأدخل (من) للتبعيض، فدل على أن جميعهم لم يكونوا رسلا أنبياء، كما أنه تعالى قال " ومن الناس " (5) فدل على أن جميع الناس لم يكونوا أنبياء. وقوله " ففسق عن أمر ربه " معناه خرج عن أمر ربه إلى معصيته بترك السجود لآدم. وأصل الفسق الخروج إلى حال تضر، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وفسقت الفارة إذا خرجت من حجرها قال رؤبة:
يهوين في نجد وغورا غايرا * فواسقا عن قصدها جوائرا (6)
وقال أبو عبيدة: هذه التسمية لم أسمعها في شئ من أشعار الجاهلية، ولا أحاديثها، وإنما تكلمت بها العرب بعد نزول القرآن، قال المبرد: والامر على ما ذكر أبو عبيدة، وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب، وأوكد الأمور ما جاء في القرآن. وقال قطرب: معنا " ففسق عن امر ربه " عن رده أمر ربه، كقولهم كسوته عن عرى وأطعمته عن جوع، ثم خاطب تعالى الخلق الذين أشركوا بالله غيره، فقال " أفتتخذونه يعنى إبليس وذريته أولياء " أي أنصارا توالونهم من دون الله " وهم " يعني إبليس " وذريته عدو لكم " يريدون بكم الهلاك والدمار " بئس " البدل " للظالمين بدلا " ونصب (بدلا) على التمييز. ثم قال " ما أشهدتهم خلق السماوات " وقيل معناه ما أشهدتهم ذلك مستعينا بهم، وقيل معناه ما أشهدت بعضهم خلق بعض. ووجه اتصال ذلك بما قبله اتصال الحجة التي تكشف حيرة الشبهة، لأنه بمنزلة ما قيل إنكم قد أقبلتم على اتباع إبليس وذريته حتى كأن عندهم ما تحتاجون إليه، فلو أشهدتهم خلق السماوات والأرض وخلق أنفسهم، فلم يخف عليهم باطن الأمور وظاهرها لم تزيدوا على ما أنتم عليه في أمركم. ثم قال تعالى " وما كنت متخذ المضلين عضدا " يعني أعوانا، وهو قول قتادة وهو من اعتضد به إذا استعان به. وفي عضد خمس لغات، وهي عضد وعضد وعضد وعضد وعضد. ثم اخبر تعالى عن حالهم يوم القيامة فقال واذكر يوم يقول الله تعالى للمشركين نادوا شركائي الذين زعمتم - على وجه التقريع والتوبيخ - واستغيثوا بهم، فدعوهم يعني المشركين يدعون أولئك الشركاء الذين عبدوهم مع الله، فلا يستجيبون لهم ثم قال تعالى " وجعلنا بينهم موبقا " قال ابن عباس أي مهلكا، وبه قال قتادة والضحاك وابن زيد، وهو من أوبقته ذنوبه أي أهلكته. وقال الحسن معنا " موبقا " أي عداوة، كأنه قال عداوة مهلكة. وقال أنس بن مالك: هو واد في جهنم من قيح ودم. وحكى الكسائي وبق يبق وبوقا، فهو وابق إذا هلك، وحكى الزجاج: وبق الرجل يوبق وبقا. والوبق مصدر وبق.
1- في المخطوطة (الانسان) بدل (الابصار).
2- سورة 22 - الحج - آية 75.
3- سورة 22 - الحج - آية 75.
4- ملحق ديوانه 190 ومجاز القرآن 1 / 406 وتفسير الطبري 51 / 158 والكشاف 3 / 110 واللسان والتاج (فسق) وغيرها.
5- ديوانه (دار بيروت) 10.
6- ديوان الهذليين 2 / 104 وتفسير الطبري 15 / 160 واللسان (صرف) وشواهد الكشاف 192 ومجاز القرآن 1 / 407.