الآيات 31-34

قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا، وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾

أربع آيات في الكوفي والبصري وثلاث في المدني تمام الثانية (زرعا). قرأ عاصم وأبو جعفر وروح " وكان له ثمر ". " وأحيط بثمره " بفتح الثاء والميم فيهما، وافقهم رويس في الأولى. وقرأ أبو عمرو - بضم الثاء وسكون الميم - فيهما. الباقون بضمهما فيهما. قال أبو علي: الثمر ما يجتني من ذي الثمر وجمعه ثمرات مثل رحبة ورحبات: ورقبة ورقبات، ويجوز في جمع (ثمرة) ضربان:

أحدهما: على ثمر، كبقرة وبقر.

والاخر: على التكسير، فتقول ثمار كرقبة ورقاب، فيشبه المخلوقات بالمصنوعات وشبه كل واحد منهما بالآخر. ويجوز في القياس أن يكسر (ثمار) الذي هو جمع ثمرة على ثمر، ككتاب وكتب، ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة كبدنة وبدن وخشبة وخشب، ويجوز أن يكون ثمر واحدا كعنق وطنب، فعلى جميع هذه الوجوه يجوز اسكان العين منه. ومثله في قوله " وأحيط بثمره ". وقال بعض أهل اللغة: الثمر المال، والثمر المأكول. وجاء في التفسير (إن الثمر النخل والشجر) ولم يرد به الثمر. فالثمر - على ما روي عن جماعة من السلف - الأصول التي تحمل الثمرة لا نفس الثمرة بدلالة قوله " فأصبح يقلب كفيه على ما انفق فيها " أي في الجنة والنفقة إنما تكون على ذوات الثمر في الأكثر، فكأن الآية التي أرسلت عليها اصطلمت الأصول واجتاحتها، كما قال تعالى في صفة الجنة الأخرى " فأصبحت كالصريم " (1) أي كالليل في سواده لاحتراقها بعد أن كانت كالنهار في بياضها. وحكي عن أبي عمرو، إن الثمرة والثمر أنواع المال من الذهب والفضة وغيرهما يقال: فلان مثمر أي كثير المال، ذهب إليه مجاهد وغيره. اخبر الله تعالى في الآية الأولى عما للمؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين أخبر عنهم بأنه لا يضيع عملهم الحسن، وما قد أعد لهم، فقال " لهم جنات عدن " والجنات جمع جنة، وهي البستان الذي فيها الشجر. ومعنى (عدن) أي موضع إقامة، وإنما سمي بذلك. لأنهم يبقون فيها ببقاء الله دائما وأبدا، والعدن الإقامة. وقيل: هو اسم من أسماء الجنة - في قول الحسن - ويقال عدن بالمكان يعدن عدنا إذا أقام فيه، فسمى الجنة عدنا من إقامة الخلق فيها. ثم وصف هذه الجنة، فقال " تجري من تحتهم الأنهار " وقيل في معنا ذلك قولان:

أحدهما: إن انهار الجنة في أخاديد من الأرض، فلذلك قال من تحتهم.

الثاني: انهم على غرف فيها فالأنهار تجري من تحتهم، كما قال تعالى " وهم في الغرفات آمنون " (2). وقوله " يحلون فيها من أساور من ذهب " أي يجعل لهم فيها حليا من زينة من أساور، وهو جمع أسوار على حذف الزيادة، لان مع الزيادة أساوير، في قول قطرب. وقيل هو جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، يقال بكسر السين وضمها - في قول الزجاج - والسوار زينة تلبس في الزند من اليد. وقيل هو من زينة الملوك يسور في اليد ويتوج على الرأس. " ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق " فالسندس مارق من الديباج واحده سندسة وهي الرقيقة من الديباج، على أحسن ما يكون وأفخره، فلذلك شوق الله إليه. والإستبرق الغليظ من الديباج. وقيل هو الحرير قال المرقش:

تراهن يلبسن المشاعر مرة * وإستبرق الديباج طورا لباسها (3)

وقوله تعالى " متكئين " نصب على الحال " فيها " يعني في الجنة " على الأرائك " جمع أريكة، وهي السرير قال الشاعر:

خدودا جفت في السير حتى كأنما * يباشرن بالمعزاء مس الأرائك (4)

وقال الأعشى:

بين الرواق وجانب من سيرها * منها وبين أريكة الأنضاد (5)

أي السرير في الحجلة. وقال الزجاج: الأرائك الفرش في الحجال. ثم قال تعالى إن ذلك " نعم الثواب " والجزاء على الطاعات " وحسنت مرتفقا " يعني حسنت الجنة مرتفقا، فلذلك أنث الفعل، ومعنى " مرتفقا " اي مجلسا، وهو نصب على التمييز. ثم قال " واضرب لهم مثلا رجلين " أي اضرب رجلين لهم مثلا " جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل " أي جعلنا النخل مطيفا بهما يقال حفه القوم يريد إذا طافوا به " وجعلنا بينهما زرعا " اعلام بأن عمارتها كاملة متصلة لا يفصل بينهما إلا عمارة. واعلمنا أنهما كاملتان في تأدية كل حملها من غلتها، فقال " كلتا الجنتين آتت اكلها " أي طعمها وما يؤكل منها " ولم تظلم منه شيئا " أي لم تنقص بل أخرجت ثمرها على الكمال والتمام، قال الشاعر:

يظلمني ما لي كذا ولوى يدي * لوى يده الله الذي هو غالبه (6)

أي ينقصني ما لي. وقال الحسن: معناه لم ينقص " وفجرنا خلالهما نهرا " أي شققنا نهرا بينهما، وفائدتهما أنهما يشربان من نهر واحد. " وكان له ثمر " وقرئ (ثمر) قال مجاهد هو ذهب، وفضة. وقال ابن عباس وقتادة: هو صنوف الأموال، يقال: ثمار وثمر مثل حمار وحمر، ويجوز أن يكون جمع ثمر، مثل خشب وخشب، وإنما قال " كلتا الجنتين آتت " على لفظ كلتا، لأنه بمنزلة (كل) في مخرج التوحيد. ولو قال آتتا، على الجنتين كان جائزا قال الشاعر في التوحيد:

وكلتاهما قد خط لي في صحيفتي * فلا العيش اهواه ولا الموت أروح (7)

ويجوز كلاهما في الحديث قال الشاعر:

كلا عقبيه قد تشعث رأسها * من الضرب في جنبي ثقال

مباشر والألف واللام في كلتا ليست ألف التثنية، ولذلك يجوز أن تقول الاثنتان قام، ويجوز ان يقال كل الجنة آتت. ولا يجوز كل المرأة قامت، لان بعض الامرأة ليس بامرأة وبعض الجنة جنة، فكأنه قال كل جنة من جملة ما آتت. وقوله " فقال لصاحبه وهو يحاوره " أي يقول أحد الرجلين لصاحبه يعني صاحبي الجنتين اللتين ضرب بهما المثل، يقول لصاحبه الآخر " وهو يحاوره " أي يراجعه الكلام " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " أي أجمع مالا وأعز عشيرة وأكثر أنصارا، وقد فسرناه فيما مضى وإنما قال " وفجرنا خلالهما نهرا " والنهر يتفجر من موضع واحد لان النهر يمتد حتى يصير التفجر كأنه فيه كله، فالتخفيف والتثقيل فيه جائزان ومنه " حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " (8) يخفف ويثقل على ما مضى القول فيه.


1- تفسير القرطبي 10 / 397 وتفسير الطبري 15 / 148 وهو في مجمع البيان 3 / 466.

2- قائله دون الرمة ديوانه 442 ومجاز القرآن 1 / 401 وتفسير الطبري 15 / 148.

3- ديوان الأعشيين (طبع بيانة) 344 وتفسير الطبري 15 / 148 ومجاز القرآن 1 / 401.

4- مر تخريجه في 2 / 508.

5- البيت في مجمع البيان غير منسوب.

6- سورة 17 - الاسرى آية 90.

7- ديوانه (دار بيروت) 84 وطبع (بيانه) 41 والقرطبي 10 / 405 وروايته (فما انا أم ما انتحالي القوافي).

8- سورة 21 الأنبياء آية 97.