الآيات 28-30
قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾
القراءة:
قرأ ابن عامر وحده " بالغدوة والعشي " بضم الغين والواو، وإسكان الدال. الباقون بفتح الغين والدال، ومع الألف، ولا يجوز عند أهل العربية إدخال الألف واللام على غدوة، لأنها معرفة، ولو كانت نكرة لجاز فيها الإضافة ولا يجوز غدوة يوم الجمعة كما يجوز غداة يوم الجمعة. وقال أبو علي النحوي من أدخل الألف واللام، فإنه يجوز - وإن كان معرفة - أن تنكر، كما حكى أبو زيد لقيته فينة. والفينة بعد الفينة، ففينة مثل غدوة في التعريف، ومثل قولهم: اما النضرة، فلا نضرة، فأجري مجرى ما يكون سائغا في الجنس. ومن قرأ بالغداة، فقوله أبين. وقال ابن خالويه: العرب تدخل الألف واللام على المعرفة إذا جاؤوا بما فيه الألف واللام ليزدوج الكلام، قال الشاعر:
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا * شديدا بأعباء الخلافة كاهله (1)
فادخل الألف واللام على اليزيد لما جاور الوليد، فلذلك أدخل ابن عامر الألف واللام في (الغدوة) لما جاور العشي. والعرب تجعل (بكرة وغدوة وسحر) معارف إذا أرادوا اليوم بعينه. أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بالصبر على جملة المؤمنين الذين يدعون الله بالغداة والعشي، والصبر على ثلاثة أقسام: صبر واجب مفروض وهو ما كان على أداء الواجبات التي تشق على النفس وتحتاج إلى التكلف.
الثاني: ما هو مندوب فان الصبر عليه مندوب إليه. والثالث مباح جائز، وهو الصبر على المباحات التي ليست بطاعة لله. وقوله " يريدون وجهه " معناه يريدون تعظيمه والقربة إليه دون الرياء والسمعة، فذكر الوجه بمعنى لأجل التعظيم، كما يقال أكرمته لوجهك أي لتعظيمك لان من عادتهم أن يذكروا وجه الشئ ويريدون به الشئ المعظم. كقولهم هذا وجه الرأي أي هذا الرأي الحق المعظم. وقوله " ولا تعد عيناك عنهم " معناه لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم ولا تنصرف وقيل إنها نزلت في سلمان وأصحابه إلى سواهم من أرباب الدنيا الممرحين فيها " تريد " بذلك " زينة الحياة الدنيا. ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " نزلت في عيينة بن حصين. وقيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تطع من صادفناه غافلا عن ذكرنا كقولهم احمدت فلانا أي صادفته محمودا فهو من باب صادفناه على صفة.
الثاني: لا تطع من سميناه غافلا، ونسبناه إلى الغفلة كقولهم أكفرناه أي نسبناه إلى الكفر.
الثالث: لا تطع من أغفلنا قلبه أي جعلناه غافلا بتعرضه للغفلة. وقيل لم يسمه الله بما يسم به قلوب المؤمنين مما ينبئ عن فلاحهم، كما قال " كتب في قلوبهم الايمان " (2). " واتبع هواه " يعني الذي أغفلناه عن ذكرنا " اتبع هواه، وكان أمره فرطا " معناه تجاوزا للحق وخروجا عنه، من قولهم أفرط إفراطا إذا أسرف، فاما فرط فمعناه قصر عن التقدم إلى الحق الذي يلزمه. وقيل معناه وكان أمره سرفا. ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهم الذي أتيتكم به هو الحق من ربكم الذي خلقكم " فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر " صورته صورة الامر والمراد به التهديد وهو آكد في التهدد من جهة أنه كأنه مأمور بما يوجب اهانته. ثم أخبر أنه أعد للظالمين العصاة نارا أحاط بهم سرادقها فالسرادق المحيط بما فيه مما ينقل معه والأصل سرادق الفسطاط قال رؤبة:
يا حكم بن المنذر بن الجارود * سرادق المجد إليك ممدود (3)
وقال ابن عباس سرادقها حائط من نار يطيف بهم، وقيل سرادقها دخانها قبل وصولهم إليها. وقيل السرادق ثوب يدار حول الفسطاط. وقوله " وإن يستغيثوا " معناه إن طلبوا الغوث والنجاة، وطلبوا ماء لشدة ما هم فيه من العذاب " اغيثوا بماء كالمهل " والمهل كل شئ أذيب حتى ماع، كالصفر والرصاص والذهب والحديد، وغير ذلك - في قول ابن مسعود - وقال مجاهد: هو القيح والدم. وقال ابن عباس هو دردي الزيت. وقال سعيد بن جبير هو الشئ الذي قد انتهى حره " يشوي الوجوه " أي يحرقها من شدة حره إذا قربت منه. ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك بأنه " بئس الشراب " يعني ذلك المهل " وساءت مرتفقا " وقيل معناه المتكأ من المرفق، كما قال أبو ذؤيب:
بات الخلي وبت الليل مرتفقا * كان عيني فيها الصاب مذبوح (4)
وقيل هو من الرفق. وقال مجاهد معناه مجتمعا كأنه ذهب به إلى معنى مرافقة. ثم أخبر تعالى عن المؤمنين الذين يعملون الصالحات من الطاعات ويجتنبون المعاصي بأنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يبطل ثوابه. وقيل في خبر " إن الذين آمنوا " ثلاثة أقوال:
أحدها: ان خبره قوله " أولئك لهم جنات عدن " ويكون قوله " إنا لا نضيع اجر من أحسن عملا " اعتراضا بين الاسم والخبر.
الثاني: أن يكون الخبر إنا لا نضيع أجره، إلا أنه وقع المظهر موقع المضمر.
الثالث: أن يكون على البدل، فلا يحتاج الأول إلى خبر، كقول الشاعر:
إن الخليفة ان الله سربله * سربال ملك به ترجى الخواتيم
فأخبر عن الثاني وأضرب عن الأول.
1- تفسير القرطبي 10 / 393 ومجاز القرآن 1 / 399 واللسان (سردق) وسيبويه 1 / 272.
2- ديوان الهذليين 1 / 104 وتفسير الطبري 15 / 148 ومجاز القرآن 1 / 400 وتفسير القرطبي 10 / 395 والتاج واللسان والصحاح (صوب) وغيرها.
3- سورة 68 - القلم آية 20.
4- سورة 34 سبأ آية 37.