الآيات 16-18

قوله تعالى: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إلى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا، وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأهل الكوفة، وأبو بكر والأعشى إلا يحيى والعليمي " مرفقا " بفتح الميم وكسر الفاء. الباقون - بكسر الميم وفتح الفاء - وقرأ ابن عامر ويعقوب (تزور) - بتخفيف الزاي وتسكينها وتشديد الراء من غير ألف - وقرأ أهل الكوفة بتخفيف الزاي والف بعدها وتخفيف الراء. الباقون كذلك إلا أنهم شددوا الزاي. وقرأ أهل الحجاز " لمليت " بتشديد اللام. الباقون بتخفيفها وبالهمز. قال أبو عبيدة: المرفق ما ارتفقت به وبعضهم يقول: المرفق. فأما في اليدين فهو (مرفق) بكسر الميم وفتح الفاء، وهو قول الكسائي، وأجاز الفراء الفتح أيضا. وقال أبو زيد يقال: رفق الله عليك أهون المرفق والرفق. قال أبو علي: ما حكاه أبو زيد في (المرفق) فإنه جعله مصدرا، لأنه جعله كالرفق، وكان القياس الفتح لأنه من (يرفق) لكنه كقوله " مرجعكم " (1) " ويسألونك عن المحيض " (2) وقال أبو الحسن: (مرفقا) أي شيئا يرتفقون به مثل المقطع. و (مرفقا) جعله اسما مثل المسجد أو يكون لغة يعنى في اسم المصدر مثل المطلع ونحوه. ولو كان على القياس لفتحت اللام. وقال الحسن أيضا: مرفق - بكسر الميم وفتحها - لغتان لا فرقق بينهما إنما هما اسمان مثل المسجد والمطبخ. ومن قرأ " تزور " فإنه مثل تحمر وتصفر، ومعناه تعدل وتميل قال عنترة:

فازور من وقع القنا بلبانه * وشكى إلي بعبرة وتحمحم (3)

وقرأ عاصم والجحدري " تزوار " مثل تحمار وتصفار. ومن قرأ " تزاور " أراد تتزاور فأدغم التاء في الراء. ومن خفف أراد ذلك، وحذف إحدى التائين وهي الثانية مثل تساقط، وتساقط، وتظاهرون، وتظاهرون. قال أبو الزحف:

ودون ليلى بلد سمهدر * جدب المندى عن هوانا أزور (4)

يقال: هو أزور عن كذا أي مائل. وفى فلان زور أي عوج، والزور - بسكون الواو - هو المصدر، ومثله الجوشن، والكلكل، والكلكال، كل ذلك يراد به المصدر وقال أبو الحسن: قراءة ابن عامر " تزور " لا توضع في ذا المعنى، إنما يقال: هو مزور عني أي منقبض. وقال أبو علي: يدل على أن (أزور) بمعنى انقبض - كما قال أبو الحسن - قول الشاعر: وأزور من وقع بلبانه (5) والذي حسن القراءة به قول جرير:

عسفن على الاداعس من مهيل * وفى الاظغان عن طلح ازورار (6)

فظاهر استعمال هذا (الاظغان) مثل استعماله في (الشمس). ويقال: ملئ فلان وعيا وفزعا، فهو مملوء، وملي، فهو مملي - بالتشديد، للتكثير من ملأت الاناء فهو ملآن، وامتلأ الحوض يمتلئ امتلاءا، وقولهم: تمليت طويلا، وعانقت حبيبا، ومت شهيد ا، وأبليت جديدا، فهو غير مهموز. قال أبو الحسن: الخفيفة أجود في كلام العرب، لأنهم يقولون ملأته رعبا، فلا يكادون يعرفون (ملأتني). قال أبو علي: يدل على قول أبي الحسن قولهم (فيملا بيتنا اقطا وسمنا) وقال الأعشى: وقد ملأت بكر ومن لف لفها وقال الآخر: لا تملأ الدلو وعرق فيها وقولهم: (امتلأت) يدل على (ملئ) لان مطاوع (فعلت) (افتعلت) وقد أنشدوا في التثقيل قول المخبل السعدي: فملا من كعب سلاسله وقوله " وإذ اعتزلتموهم " خطاب من أهل الكهف بعضهم لبعض، ودعاء بعضهم بعضا إلى أن يأووا إلى الكهف، رجاء من الله أن ينشر لهم من رحمته ويبسطها عليهم، ويهيئ لهم من أمرهم مرفقا اي شيئا يرتفق به ويستعان به كالمقطع والمجزر. وقوله " وما يعبدون إلا الله " (ما) في موضع نصب ومعناه وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله من الأصنام والأوثان، ويحتمل الاستثناء أمرين:

أحدهما: أن يكون متصلا، فيجوز على ذلك أن يكون فيهم من يعبد الله مع عبادة الوثن، فيكون اعتزالهم للأوثان دون الله.

الثاني: يجوز أن يكون جميعهم كان يعبد الأوثان دون الله فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا. وقوله " فأووا إلى الكهف " أي اجعلوه مأواكم ومقركم " ينشر " الله " لكم من رحمته ويهئ لكم من أمركم " ما ترتفقون به. وقوله " فأووا " جواب (إذ) كما تقول: إذ فعلت قبيحا، فتب. وقوله " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين " أي تعدل عنهم وتميل، يقال: أزور ازورارا، وفيه زور أي ميل. وقوله " وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال " قيل في معناه قولان:

أحدهما: تقطعهم في ذات الشمال أي انها تجوزهم منحرفة عنهم، من قولك قرضته بالمقراض أي قطعته.

الثاني: تعطيهم اليسير من شعاعها ثم تأخذه بانصرافها، ومن قرض الدراهم التي تسترد. وقال مجاهد: تقرضهم تتركهم. وقال أبو عبيدة كذلك هو في كلامهم يقال: قرضت الموضع إذا قطعته وجاوزته. وقال الكسائي والفراء: هو المجاوزة يقال: قرضني فلان يقرضني وجازني يجوزني بمعنى واحد، قال ذو الرمة:

إلى قرض يقرض اجواز مشرف * شمالا وعن أيمانهن الفوارس (7)

والقرض يستعمل في أشياء غير هذا، فمنه القطع للثوب وغيره، ومنه سمي المقراض، ومنه قرض الفار. وقال أبو الدرداء: (إن قارضتهم قارضوك وإن تركتهم لم يتركوك) ومعناه إن طعنت فيهم وعبتهم فعلوا بك مثله وإن تركتهم منه لم يتركوك. والقرض، من يتقارض الناس بينهم الأموال، وقد يكون ذلك في الثناء تثني عليه كما يثني عليك. والقرض بلغة أهل الحجاز المضاربة، والقرض قول الشعر القصيد منه خاصة دون الرجز، وقيل للشعر قريض. ومن ذلك قول الأغلب العجلي: أرجزا يريد أو قريضا والمعنى في الآية ان الشمس لا تصيبهم البتة أو في أكثر الامر، فتكون صورهم محفوظة. وقيل إن الكهف الذي كانوا فيه كان محاذيا لبنات النعش إذا جازت خط نصف النهار. والفجوة: المتسع من الأرض. وقال قتادة: في فضاء منه، وتجمع فجوات وفجاء ممدود، وقيل الفجوة متسع داخل الكهف بحيث لا يراه من كان ببابه، وكان الكلب بباب الفجوة. وقوله " ذلك من آيات الله " أي أدلته وبراهينه " من يهد الله فهو المهتد " معناه من يسمه الله هاديا ويحكم بهدايته " فهو المهتد ". ويحتمل أن يكون أراد: من يهده الله إلى الجنة، فهو المهتدي في الحقيقة. ويحتمل أن يكون: من يلطف الله له بما يهتدى عنده، فهو المهتدي " ومن يضلل " أي يحكم بضلاله أو يسميه ضالا أو من يضله عن طريق الجنة، ويعاقبه " فلن تجد له وليا مرشدا " أي معينا وناصرا يرشده إلى الجنة والثواب. ثم قال تعالى " وتحسبهم " يعني وتحسب يا محمد أهل الكهف إذا رأيتهم " أيقاظا " أي منتبهين " وهم رقود " أي نيام. وقيل إنهم كانوا في مكان موحش منه، أعينهم مفتوحة يتنفسون ولا يتكلمون. وواحد (رقود) راقد أي نائم. وقوله " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " اخبار منه تعالى عما يفعل بهم وكيفية حفظ أجسادهم بأن يقلبهم من جنب إلى جنب إلى اليمين تارة وإلى الشمال أخرى. وقوله " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " قال ابن عباس: الوصيد الفناء، وبه قال مجاهد وقتادة والضحاك. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: انه هو الباب إذا أغلمته، ومنه " نار موصدة " (8). ويجمع (وصيد) وصائد ووصد، وفى واحد لغتان: وصيد، وأصيد. وأوصدت وآصدت. وليس أحدهما مأخوذا من الآخر، بل هما لغتان مثل ورخت الكتاب وأرخته، ووكدت الامر وأكدته. وقوله " لو اطلعت عليهم لو ليت منهم فرارا " نصب على المصدر، ومعناه لو أشرفت عليهم لا عرضت عنهم هربا استيحاشا للموضع " ولملئت منهم رعبا " نصب على الحال، والمعنى لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب اجله فيهم، فينتبهون من رقدتهم بإذن الله عند ذلك من أمرهم. وقيل إنه: كانت أضفارهم قد طالت، وكذلك شعورهم، فلذلك يأخذه الرعب منهم. وقال الجبائي: نومهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين - لا تتغير أحوالهم ولا يطعمون ولا يشربون - معجزة لا تكون إلا لنبي. وقيل النبي كان أحدهم، وهم الرئيس الذي اتبعوه وآمنوا به.


1- سورة 2 البقرة آية 222.

2- ديوانه 30 من معلقته المشهورة.

3- أبو الزحف الكلبي مترجم في الشعراء 462. والبيت في مجاز القرآن 1 / 395 وتفسير القرطبي 10 / 350 وجمهرة اشعار العرب 1 / 443، 3 / 370 واللسان والتاج (زور سمهد، عشنزر).

4- قد مر في الصفحة التي قبلها.

5- ديوانه (دار بيروت) 182 وروايته (على إلا ما عز من حبى).

6- ديوانه 313 وتفسير الطبري 15 / 130 وتفسير القرطبي 10 / 469 والصحاح والتاج، واللسان (قرض) ومجمع البلدان 4 / 463 ومجاز القرآن 1 / 400 وغيرها.

7- سورة 90 البلد آية 20.

8- وفي المخطوطة زيادة وقال بعضهم: " ابنوا عليهم مسجدا " ليصلوا فيه إذا انتبهوا).