الآيات 1-3
قال مجاهد وقتادة: هي مكية، وهي مئة وعشرون آية في الكوفي وإحدى عشرة في البصري وخمس في المدنيين.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا، قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾
القراءة:
قرأ أبو بكر (لدنه) باسكان الدال واشمال الضمة، وكسر النون والهاء وإيصالها بياء. الباقون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء من غير واو، إلا ابن كثير، فإنه كان يصل الهاء بواو. واعلم أن (لدن) اسم غير متمكن، ومعناه (عند)، قال الله تعالى " من لدن حكيم خبير " (1) فالنون ساكنة في كل أحوالها، والهاء إذا أتت بعد حرف ساكن لم يجز فيها إلا الضم نحو (منه) فالأصل (منهو) و (لهو) فهو كقول ابن كثير، غير أنهم حذفوا الواو اختصارا، وإنما أسكن أبو بكر الدال استثقالا للضم كما قالوا " في كرم زيد ": قد كرم زيد، فلما سكن الدال التقى ساكنان، النون والدال، فكسر النون لالتقاء الساكنين، وكسر الهاء لمجاورة حرف مكسور، ووصلها بهاء كما تقول: مررت به، ولو فتح النون لالتقاء الساكنين لجاز، بعد أن أسكن الثاني كقول الشاعر:
عجبت لمولود وليس له أب * ومن ولد لم يلده أبوان (2)
يعني آدم وعيسى. فلا يتوهم أن عاصما كسر النون علامة للجزم، لان (لدن) لا تعرب. وحكى أبو زيد: جئت فلانا لدن غدوة - بفتح الدال -. يقول الله تعالى لخلقه قولوا (الحمد لله الذي) خص برسالته محمدا صلى الله عليه وآله وانتجبه لابلاغها عنه، وبعثه إلى خلقه نبيا رسولا، وانزل عليه كتابا قيما، ولم يجعل له عوجا. وقيل في معنى قوله (قيما) قولان:
أحدهما: معتدلا مستقيما.
الثاني: أنه قيم على سائر الكتب يصدقها ويحفظها. والأول قول ابن عباس. فعلى هذا " قيما " مؤخر، والمراد به التقدم، وتقديره أنزل الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا أي اختلافا. وقال الضحاك: معناه مستقيما. وقال ابن إسحاق: معناه معتدلا لا اختلاف فيه. وقال قتادة: أنزل الله الكتاب قيما، ولم يجعل عوجا. وفي بعض القراءات " ولكن جعله قيما " وكسرت العين من قوله " عوجا " لان العرب تقول: عوجا - بكسر العين - في كل اعوجاج كان في دين أو فيما لا يرى شخصه قائما ولا يدرك عيانا منتصبا كالعوج في الدين، ولذلك كسرت العين في هذا الموضع. وكذلك العوج في الطريق، لأنه ليس بالشخص المنتصب. فأما ما كان في الأشخاص المنتصبة فان عينها تفتح كالعوج في القناة والخشبة ونحوها. وقال ابن عباس: معنى قوله " ولم يجعل له عوجا " أي لم يجعله ملتبسا. ولا خلاف بين أهل العربية ان قوله (قيما) وإن كان مؤخرا فتقديره إلى جنب الكتاب. وإنما افتتح الله تعالى هذه السورة بذكر نفسه بما هو أهله، وبالخبر عن انزال كتابه على رسوله، ليخبر المشركين من أهل مكة بأن محمدا صلى الله عليه وآله رسوله، لان المشركين كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله عن أشياء لقنوها إياهم اليهود، من قريظة والنضير، وأمروهم أن يسألوه عنها، وقالوا: إن أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم فهو مقتول، فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وآله الجواب عنها، موعدا فأبطأ - على قول بعضهم - الوحي عنه بعض الابطاء وتأخر مجئ جبرائيل (ع) عنه، عن ميعاده القوم فتحدث المشركون بأنه أخلفهم موعده، وأنه مقتول، فأنزل الله هذه السورة جوابا عن مسائلهم، وافتتح أولها بذكره تكذيبا للمشركين فيما تحدثوا بينهم من أحدوثتهم - ذكر ذلك محمد بن إسحاق باسناده عن عكرمة عن ابن عباس - وكان الذين ذهبوا إلى اليهود وسألوهم عن أمر النبي صلى الله عليه وآله النضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، وكانت المسائل التي لقنوهم إياها: أن قالوا: سلوه عن ثلاثة أشياء، فان أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فإنه مقتول، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؟فإنه كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟وسلوه عن الروح ما هو؟فان أخبركم بذلك فإنه نبي مبعوث، فاتبعوه، وإن لم يخبر كم فإنه مقتول. فرجعا إلى مكة واجتمعا مع قريش فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه عنها، فقال النبي صلى الله عليه وآله أخبركم بذلك. وقال بعضهم: أنه قال أخبركم غدا بما سألتم، ولم يستثن، وانصرفوا عن النبي صلى الله عليه وآله فمكث رسول الله خمس عشرة ليلة لا ينزل الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل (ع) حتى أوجف أهل مكة، وتكلموا في ذلك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله عليه جبرائيل ومعه (سورة الكهف) يخبره فيها عما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وانزل عليه " ويسألونك عن الروح... " (3) الآية. فروى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وآله أفتتح السورة، فقال " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما " أي معتدلا، لا اختلاف فيه. وقوله " لينذر بأسا شديدا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم اجرا حسنا ماكثين فيه ابدا " معناه أنزل على عبده القرآن معتدلا مستقيما لا عوج فيه، لينذركم أيها الناس بأسا شديدا من أمر الله. ومعنى البأس العذاب العاجل والنكال الحاضر، والسطوة. ومعنى " من لدنه " من عند الله، وهو قول ابن إسحاق، وقتادة. ومفعول " لينذر " محذوف، لدلالة الكلام عليه، وتقديره: لينذركم بأسا كلما قال " يخوف أولياءه " (4) وتقديره يخوفكم أولياءه، ومعنى " ويبشر المؤمنين " يعني المصدقين بالله ورسوله " الذين يعملون الصالحات " يعني ما أمرهم الله به من الطاعات، وهي الاعمال الصالحات، والانتهاء عما نهاهم عنه " أن لهم اجرا حسنا " يعني ثوابا جزيلا من الله على ايمانهم بالله ورسوله، وعملهم في الدنيا بالطاعات واجتناب المعاصي، وذلك الثواب هو الجنة. وقوله " ماكثين فيه أبدا " أي لابثين فيه ابدا خالدين مؤبدين لا ينتقلون عنه ولا ينقلبون، ونصب (ماكثين) على الحال من قوله " إن لهم أجرا حسنا " في هذه الحال، في حال مكثهم في ذلك الاجر.
1- سورة 11 هود آية 1.
2- تفسير الطبري 15 / 119 وهو في مجمع البيان 3: 446.
3- سورة 17 الاسرى آية 85.
4- سورة 3 آل عمران آية 175.