الآية 44

قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾

القراءة:

قرأ " اخشوني " بياء في الوصل أهل البصرة وأبو جعفر، وإسماعيل، ويقف يعقوب بالياء. أخبر الله تعالى أنه الذي أنزل التوراة فيها هدى أي بيان أن أمر النبي حق وأن ما سألوك عنه في حكم الزانيين حق، والقود حق " ونور " يعني فيها جلاء ما أظلم عليهم وضياء ما التبس عيلهم " يحكم بها النبيون الذين اسلموا " يعني يحكم بالتوراة النبيون الذين أذعنوا بحكم الله وأقروا به. وقال الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي: إن النبي صلى الله عليه وآله داخل في ذلك، بل قال أكثرهم: هو المعني بذلك لما حكم في رجم المحصن، ولا يدل ذلك على أنه كان متعبدا بشرع موسى (ع) لان الله تعالى هو الذي أوجب عليه بوحي أنزل عليه لا بالرجوع إلى التوراة فصار ذلك شرعا له وإن وافق ما في التوراة وإنما نبه اليهود بذلك على صحة نبوته من حيث علم ما هو من غامض علم التوراة ومما قد التبس على كثير منهم وهو قد عرف ذلك من غير قراءة كتبهم، والرجوع إلى علمائهم، فلم يكن ذلك إلا باعلام الله له ذلك وذلك من دلائل صدقه (صلى الله عليه وآله). وقوله: " للذين هادوا " العامل في (الذين) أحد شيئين:

أحدهما: (يحكم) في قول الزجاج وأبي علي وجماعة من أهل التأويل.

الثاني: قال قوم العامل (أنزلنا) كأنه قال أنزلناها للذين هادوا. والربانيون. قد فسرناه فيما مضى (1) وهو جمع رباني وهم العلماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم، قال السدي: عنا به ابن صوريا. وقال الباقون - وهو الأولى - إنه على الجمع، والأحبار جمع حبر، وهو العالم مشتق من التحبير وهو التحسين فالعالم يحسن الحسن ويقبح القبيح، وقال الفراء، أكثر ما سمعت فيه حبر بالكسر. وقوله " بما استحفظوا " معناه بما استودعوا. والعامل في الباء أحد سببين:

أحدهما: " الأحبار " كأنه قال العلماء بما استحفظوا.

الثاني: (يحكم) بما استحفظوا. وقوله: " وكانوا عليه شهداء " قيل في معناه قولان:

أحدهما: قال ابن عباس شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وآله في التوراة.

الثاني: شهداء على ذلك الحكم أنه الحق من عند الله. وقوله: " فلا تخشوا الناس واخشوني " قيل في معناه قولان:

أحدهما: لا تخشوهم يا علماء اليهود في كتمان ما أنزلت ذهب إليه السدي.

الثاني: لا تخشوهم في الحكم بغير ما أنزلت بل اخشوني فان النفع والضر بيدي " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " معناه لا تأخذوا بترك الحكم الذي أنزلته على موسى (ع) أيها الأحبار خسيسا. وهو الثمن القليل. وإنما نهاهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله وتغييرهم حكمه، وهو قول ابن زيد والسدي. وقوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " معناه من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكما بين عباده، فأخفاه وحكم بغيره: من رجم المحصن والقود " فأولئك هم الكافرون ". واختلفوا هل الآية على عمومها أم لا؟فقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم هي على عمومها. وقال ابن عباس: هي في الجاحد لحكم الله. وقيل في اليهود خاصة في قول الجبائي، لأنه قال لا حجة للخوارج فيها من حيث هي خاصة في اليهود. وقال البلخي يجوز أن تكون (من) بمعنى (الذي) وتكون للعهد، وهو من تقدم ذكره من اليهود. ويحتمل أن يكون خرج مخرج الشتم لا على وجه المجازاة كما يقول القائل: من فعل كذا فهو الذي لا حسب له ولا أصل، ولا يريد أنه استحق الدناءة بالفعل الذي ذكروا أنه إنما كان غير حسيب من أجل فعله وإنما يريدون الشتم وإن كان قد يفعل ذلك لعارض الحسيب العظيم الهمة. واختار الرماني قول ابن مسعود غير أنه قال الحكم هو فصل الامر على وجه الحكمة عند الحاكم بخلاف ما أنزل الله، لأنه بمنزلة من قال الحكمة خلاف ما أنزل الله. والأولى أن تقول هي عامة فيمن حكم بغير ما أنزل الله مستحلا لذلك، فإنه يكون كافرا بذلك - بلا خلاف - ومتى لم يكن كذلك فالآية خاصة على ما قاله ابن عباس في الجاحدين أو ما قاله أبو علي في اليهود. وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله أن هذه الآيات الثلاث: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " في الكفار خاصة، وبه قال ابن مسعود وأبو صالح. وقال ليس في أهل الاسلام منها شئ وبه قال الضحاك وأبو مجلز وعكرمة وقتادة. وقال الشعبي: نزلت " الكافرون " في المسلمين " والظالمون " في اليهود " والفاسقون " في النصارى وقال عطا وطاووس أراد به كفرا دون كفر، وظلما دون ظلم، وفسقا دون فسق. ورووه عن ابن. وقال إبراهيم هي عامة في بني إسرائيل وغيرهم من المسلمين، وبه قال الحسن: وقد بينا الأقوى من هذه الأقاويل.

1- في تفسير آية 79 من سورة آل عمران المجلد الثاني ص 110 - 111.