الآية 1
هي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال جعفر بن مبشر: هي - مدينة إلا آية منهما نزلت في حجة الوداع وهي قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " وهي كلها مدنية بمعنى انها نزلت بعد الهجرة. وقال الشعبي: نزل قوله: " اليوم أكملت " والنبي (صلى الله عليه وآله) واقف على راحلته في حجة الوداع. وقال عبد الله بن عمر آخر سورة نزلت المائدة. وهي مائة وعشرون آية كوفي واثنتان وعشرون في المدينتين. وثلاثة وعشرون بصرى.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾
هذا خطاب من الله (تعالى) للمؤمنين المعترفين بوحدانيته تعالى المقرين له بالعبودية المصدقين لرسوله صلى الله عليه وآله في نبوته، وفيما جاء به من عند الله من شريعة الاسلام، أمرهم الله بإيفاء العقود وهي العهود التي عاهدوها مع الله وأوجبوا على أنفسهم حقوقا، والزموا نفوسهم بها فروضا أمرهم الله تعالى بالاتمام بالوفاء والكمال لما لزمهم يقال: أوفى بالعهد ووفى به وأوفى به لغة أهل الحجاز. وهي لغة القرآن، واختلف أهل التأويل في العقود التي امر الله " تعالى " بالوفاء بها في هذه الآية بعد اجماعهم على أن المراد بالعقود العهود، فقال قوم: هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة. والمظاهرة على من حاول ظلمهم أو بغاهم سوء وذلك هو معنى الحلف. ذهب إليه ابن عباس ومجاهد، والربيع ابن أنس والضحاك وقتادة والسدي وسفيان الثوري. والعقود جمع عقد. وأصله عقد الشئ بغيره. وهو وصله به، كما يعقد الحبل إذا وصل به شيئا. يقال منه: عقد فلان بينه وبين فلان عقدا فهو يعقده. قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم * شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا (1)
وذلك إذا واثقه على امر عاهده علي عهد بالوفاء له بما عاقده عليه من أمان، أو ذمة أو نصرة، أو نكاح أو غيره ذلك. قال قتادة: هي عقود الجاهلية الحلف. ويقال: اعقدت العسل فهو عقيد ومعقد وروى بعضهم عقدت، العسل والكلام وأعقدت. وقال آخرون: هي العهود التي أخذ الله على عباده بالابان به، وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم. روي ذلك عن ابن عباس وقال: هو ما أحل وحرم وما فرض، وما حد في القرآن كله، فلا تعدوا أو لا تنكثوا، ثم سدد فقال: " والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه إلى قوله: سوء الدار ". وبه قال أيضا مجاهد: وقال قوم: بل العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه كعقد الايمان، وعقد النكاح، وعقد العهد، وعقد البيع، وعقد الحلف. ذهب إليه عبد الله بن عبيدة وابن زيد، وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه. وقال آخرون: ذلك امر من الله لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به من عند الله. ذكر ذلك ابن جريج وأبو صالح. وقال الجبائي: أراد به الوفاء بالايمان فيما يجوز الوفاء به. فاما ما كان يمينا بالمعصية، فعليه حنثه وعليه الكفارة. وعندنا ان اليمين في معصية لا تنعقد، ولا كفارة في خلافها. وأقوى هذه الأقوال ما حكيناه عن ابن عباس أن معناه أوفوا بعقود الله التي أوجبها عليكم، وعقدها فيما أحل لكم وحرم، وألزمكم فرضه. وبين لكم حدوده. ويدخل في جميع ذلك ما قالوه إلا ما كان عقدا على المعاونة على أمر قبيح. فان ذلك محظور بلا خلاف. وقوله: " أحلت لكم بهيمة الأنعام " اختلفوا في تأويل بهيمة الأنعام في هذه الآية فقال قوم: هي الانعام كلها: الإبل والبقر، والغنم. ذهب إليه الحسن وقتادة والسدي والربيع والضحاك، وقال آخرون: أراد بذلك اجنة الانعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا ذكيت الأمهات. وهي ميتة. ذهب إليه ابن عمر وابن عباس. وهو المروي عن أبي عبد الله. والأولى حمل الآية على عمومها في الجميع. والانعام جمع نعم، وهو اسم للإبل، والبقر والغنم خاصة عند العرب كما قال تعالى: " والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون " ثم قال: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة " ففضل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان وأما بهائمها فإنها أولادها. وقال الفراء بهيمة الأنعام: وحشها كالظباء، وبقر الوحش، والحمر الوحشية. وإنما سميت بهيمة الأنعام، لان كل حي لا يميز، فهو بهيمة الأنعام، لأنه أبهم عن أن يميز. وقوله: " الا ما يتلى عليكم " اختلفوا في المراد بقوله " الا ما يتلى عليكم " فقال بعضهم: أراد بذلك أحلت لكم أولاد الإبل، والبقر والغنم إلا ما بين الله تعالى فيما يتلى عليكم بقوله: " حرمت عليكم الميتة والدم... الآية " ذهب إليه مجاهد وقتادة وقال: الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه. وبه قال السدي وابن عباس. وقال آخرون: استثنى من ذلك الخنزير روي ذلك أيضا عن أن عباس، والضحاك. والأول أقوى، لان قوله: " إلا ما يتلى عليكم " يجب حمله على عمومه في جميع ما حرم الله (تعالى) في كتابه. والذي حرمه هو ما ذكره في قوله: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به... إلى آخر الآية " والخنزير وإن كان محرما، فليس من بهيمة الأنعام، فمتى حملناه عليه كان الاستثناء منقطعا، ومتى خصصنا بالميتة والدم، كان الاستثناء متصلا. وإن حملناه على الكل نكون غلينا حكم الميتة وما ذكر بعده، فيكون الاستثناء أيضا حقيقة ومتصلا. واختار الطبري تخصيصه بالميتة والدم، وما أهل لغير الله به. قال الحسين ابن علي المغربي إلا ما يتلى معناه من البحيرة والسائبة والوصيلة فلا تكون المحرم، واستثنى هاهنا ما حرمه (تعالى) فلا يليق بذلك. وقوله: " غير محلي الصيد وأنتم حرم " اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: معناه أوفوا بالعقود غير محلين الصيد وأنتم حرم أحلت لكم بهيمة الأنعام. ويكون فيه التقديم والتأخير، فغير يكون منصوبا على هذا الحال مما في قوله: " أوفوا بالعقود " من ذكر الذين آمنوا. وتقدير الكلام أوفوا أيها الذين آمنوا بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه لا محلين الصيد، وأنتم حرم. وقال آخرون: معنى ذلك أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء، والبقر والحمر غير محلي الصيد غير مستحلين اصطيادهم، وأنتم حرم، وإلا ما يتلى عليكم (فغير) على هذا منصوب على الحال من الكاف، والميم اللين في قوله: " أحلت لكم بهيمة الأنعام " والتقدير أحلت لكم يا أيها الذين آمنوا بهيمة الأنعام، لا مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم وقال آخرون: معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم. بمعنى إلا ما كان منها وحشيا، فإنه صيد، ولا يحل لكم وأنتم حرم. والتقدير على هذا أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما بين لكم من وحشها غير مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم، فتكون (غير) منصوبة علي الحال في الكاف والميم في قوله: إلا ما يتلى عليكم. ذهب إلى ذلك الربيع، والحرم جمع حرام. وهو المحرم قال الشاعر:
فقلت لها حثي إليك فإنني * حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي واني ملب. وقوله: " إن الله يحكم ما يريد " معناه إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما يريد تحليله، وتحريم ما يريد تحريمه، وايجاب ما يريد ايجابه. وغير ذلك من احكامه وقضاياه، فافعلوا ما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه.
الاعراب:
(وما) في قوله: " إلا ما يتلى عليكم " في موضع نصب بالاستثناء. وقال الفراء يجوز أن يكون موضعها الرفع. كما تقول جاءني القوم، إلا زيدا وإلا زيد قال الزجاج: وهذا لا يجوز إلا أن تكون إلا بمعنى غير، فتكون صفة. فاما بمعنى الاستثناء، فلا يجوز. وقوله عليه السلام: (ذكاة الجنين ذكاة أمه عندنا) معناه انه إذا ذكيت الام وخرج الولد ميتا، قد أشعرا وأوبر، جاز أكله. وبه قال الشافعي وأهل المدينة وقال أبو حنيفة: معناه انه يذكى كما تذكى أمه وهو اختيار البلخي.
1- مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 146.