الآيات 27-30

قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾

هذا خطاب من الله تعالى لنبيه والمراد به جميع المكلفين منبها لهم على طريق الاستدلال على وحدانيته واختصاصه من الصفات بما لا يختص به سواه بأن قال " ألم تر " يا محمد ومعناه ألم تعلم " ان الله أنزل من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا " فأخرجنا به " اخبار منه تعالى عن نفسه انه أخرج بذلك الماء " ثمرات " جمع ثمرة، وهي ما يجتني من الشجر " مختلفا ألوانها " لان فيها الأحمر والأبيض والأصفر والأخضر وغير ذلك ولم يذكر اختلاف طعومها وروائحها لدلالة الكلام عليه. والاختلاف هو امتناع الشئ من أن يسد مسد صاحبه في ما يرجع إلى ذاته ألا ترى أن السواد لا يسد مسد البياض، وذلك لا يقدر عليه سواه تعالى من جميع المخلوقين " ومن الجبال جدد " واحده جده نحو مدة ومدد واما جمع جديد فجدد - بضم الدال - مثل سرير وسرر. والجدد الطرائق ﴿ بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ﴾ واحد الغرابيب غربيب وهو الذي لونه كلون الغراب من شدة سواده، ولذلك قال ﴿ سود ﴾ لأنه دل عليه من هذا الوجه، ثم بين بالافصاح أنها سود، قال امرؤ القيس:

كأن سراته وجدة متنه * كنائن يحرى فوقهن دليص (1)

يعني بالجدة الخطة السوداء تكون في متن الحمار، والكنائن جمع كنانه، والدليص الذي يبرق من الذهب والفضة وما أشبهها، فالجدد هي ألوان الطريق. ثم قال ﴿ ومن الناس ﴾ أيضا ﴿ ومن الدواب ﴾ التي تدب على وجه الأرض ﴿ والانعام ﴾ كالإبل والبقر والغنم ﴿ مختلف ألوانه ﴾ أيضا مثل ذلك مما في الجبال والثمار ﴿ كذلك ﴾ أي مثل ما قدمنا ذكره. ثم قال ﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ ومعناه ليس يخاف الله حق خوفه ولا يحذر معاصيه خوفا من عقابه إلا العلماء الذين يعرفون حقيقة ذلك فأما الجهال ومن لا يعرف الله فلا يخافونه مثل ذلك، وكذلك ينظر العلماء في حجج الله وبيناته ويفكرون في ما يفضي بهم إلى معرفته من جميع ما تقدم ذكره ثم اخبر تعالى فقال ﴿ إن الله عزيز ﴾ في انتقامه من أعدائه ﴿ غفور ﴾ لأوليائه والتائبين من خلقه الراجعين إلى طاعته. ثم قال ﴿ إن الذين يتلون كتاب الله ﴾ يعني يقرؤن القرآن ويعملون بما فيه ﴿ وأقاموا الصلاة وانفقوا ﴾ في طاعة الله ﴿ مما رزقناهم ﴾ أي مما رزقهم الله وملكهم التصرف فيه ﴿ سرا وعلانية ﴾ أي في حال سرهم، وفي حال علانيتهم ﴿ يرجون ﴾ في موضع الحال أي راجين بذلك ﴿ تجارة لن تبور ﴾ أي لا تكسد. وقيل: لا تفسد، يقال بارت السوق إذا كسدت وبار الطعام، وبار الشئ إذا فسد، قال الشاعر:

يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنابور (2)

ثم بين انهم يقصدون بذلك أن يوفيهم الله أجور ما عملوا من الطاعات بالثواب ويزيدهم من فضله زيادة على قدر استحقاقهم، لأنه وعد بأن يعطي الواحد عشرة ﴿ إنه غفور ﴾ لعباده ساتر لذنوبهم ﴿ شكور ﴾ معناه إنه يعامل بالاحسان معاملة الشاكر. وقال الجبائي: وصفه بأنه شكور مجاز، لان معناه انه يجازي على الطاعات.


1- ديوانه (شرح السندوسي) 124 وروايته (ظهره) بدل (متنه).

2- قد مر في 6 / 294 و 7 / 479.