الآيات 12-15

قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾

القراءة:

خمس آيات شامي، لأنهم عدوا " عن يمين وشمال " وأربع في ما عداه، لأنهم لم يعدوا ذلك. قرأ نافع " من ساته " بغير همز. الباقون " من سأته " بالهمزة. وقرأ الكسائي وحده " مسكنهم " بكسر الكاف. وقرأ حمزة بفتحها. الباقون (مساكنهم) على الجمع. ونصب الريح في قوله " ولسليمان الريح " على تقدير: وسخرنا لسليمان الريح. وقرأ أبو بكر عن عاصم بضم الحاء، والمعنى في ذلك أنه أضاف الريح إليه إضافة الملك يصرفه كيف شاء. وقوله " غدوها شهر ورواحها شهر " قال قتادة: كان مسيرها به إلى انتصاف النهار مقدار مسير شهر " ورواحها شهر " من انتصاف النهار إلى الليل - في مقدار مسير شهر - وقال الحسن كان يغدو من الشام إلى بيت المقدس، فيقيل بإصطخر من ارض أصبهان ويروح منها، فيكون بكابل. وقوله " واسلنا له عين القطر " قال ابن عباس وقتادة: أذبنا له النحاس والقطر النحاس. ثم قال " ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه " أي بأمر الله " ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير " معناه من يعدل من هؤلاء الجن الذين سخرناهم لسليمان حتى يعملوا بين يديه عما أمرهم الله به من طاعته " نذقه من عذاب السعير " يعني عذاب النار تقول: زاغ يزيغ زيغا وأزاغه إزاغة. ثم اخبر تعالى ان الجن الذين سخرهم الله لسليمان " يعملون له ما يشاء من محاريب " قيل: معناه شريف البيوت. وقال قتادة: قصور ومساجد، قال المبر: لا يسمى محرابا إلا ما يرتقى إليه بدرج، لقوله " إذ تسوروا المحراب " (1) قال عدى بن زيد:

كدمي العاج في المحاريب أو * كالبيض في الروض زهره مستنير (2)

وقال وضاح اليمن:

ربة محراب إذا جئتها * لم القها أو ارتقي سلما (3)

و " تماثيل " جمع تمثال وهو صورة. فبين أنهم كانوا يعملون أي صورة أرادها سليمان. وقال قوم: كانوا يعملون له صورة الملائكة. وقال آخرون: كانوا يعملون له صورة السباع والبهائم على كرسيه ليكون أهيب له، فذكر أنهم صوروا أسدين وفوق عمودي الكرسي نسرين، فكان إدا أراد صعود الكرسي بسط له الأسد ذراعه، فإذا علا فوق الكرسي نشر النسران جناحيهما، فظللا عليه لئلا يسقط عليه شئ من الشمس، ويقال: إن ذلك ممالا يعرفه أحد من الناس، فلما حاول بخت نصر صعود الكرسي بعد سليمان حين غلب على بني إسرائيل لم يعرف كيف كان يصعد سليمان، فرفع الأسد ذراعه فضرب ساقه فقدها فوقع مغشيا عليه، فما جسر أحد بعده أن يصعد على ذلك الكرسي. " وجفان كالجواب " واحدها جفنة وهي القصعة الكبيرة، والجوابي جمع جابية، وهي الحوض الذي يجئ الماء فيه، قال أبو علي النحوي: إثبات الياء مع الألف واللام أجود، وحذفها يجوز، وقال الأعشى في جفنة:

تروح على آل المحلق جفنة * كجابية الشيخ العراقي تفهق (4)

وقال آخر:

فصبحت جابية صها وجا * كأنه جلد السماء خارجا (5)

وقال ابن عباس: الجوابي الحياض " وقدور راسيات " يعني عاليات ثابتات لا تنزل، ثم نادى آل داود وأمرهم بالشكر على ما أنعم عليهم من هذه النعمة العجيبة التي أنعم بها عليهم، لان نعمته على داود نعمة عليهم، فقال " اعملوا آل داود شكرا " ثم قال تعالى " وقليل من عبادي الشكور " أي من يشكر نعمي قليل، والأكثر يجحدون نعم الله لجهلهم به، وتركهم معرفته. ثم اخبر تعالى أنه لما قضى على سليمان الموت وقدره عليه وقبضه إليه لم يعلموا بذلك من حاله حتى دلهم على موته دابة الأرض وهي الأرضة، فأكلت عصاه فانكسرت، فوقع لأنه روي أنه قبض وهو في الصلاة، وكان قال للجن اعملوا ما دمتم تروني قائما، واتكأ على عصاه من قيام، وقبضه الله إليه وبقي مدة فيجئ الجن فيطالعونه فيرونه قائما فيعودون فيعملون إلى أن دبت الأرضة فأكلت عصاه فوقع وخر، فعلموا حينئذ موته وتبينت الجن أن لو كانوا يعلمون ما غاب عنهم من موت سليمان لم يلبثوا في العذاب الذي أهانهم وأذلهم والمنسأة العصا الكبيرة التي يسوق بها الراعي غنمه قال أبو عبيدة: معنى " تبينت الجن " أي أبانت الجن للناس " أن لو كانوا " الجن " يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " والمنسأة أصلها الهمزة من نسأت إلى سقت، وقد يترك الهمز، قال الشاعر:

إذا دببت على المنساة من هرم * فقد تباعد عنك اللهو والغزل (6)

إلا أنه يترك همزها، كما يترك في (البرية) وهي من برأت، وقيل: إنه كان متوكئا على عصاه سنة لا يدرك أنه مات. وقيل: المعنى " فلما خر تبينت " جماعة من عوام " الجن " أغواهم مردتهم أن المتمردين " لو كانوا يعلمون الغيب " لأنهم كانوا يقولون لهم نحن نعلم الغيب، وفي قراءة أهل البيت " فلما خر تبينت الانس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " قالوا: لان الجن كانت تعلم أنها لا تعلم الغيب قبل ذلك. وإنما تبينت الانس ذلك من حال الجن. ثم اخبر تعالى فقال " لقد كان لسبأ في مسكنهم آية " أي دلالة وعلامة ف? (سبأ) قيل: إنه أبو عرب اليمن كلها، فقد تسمى به القبيلة نحو هذه تميم. فمن قرأ على التوحيد، فلانه يدل على القليل والكثير. ومن جمع أراد المساكن المختلفة، والفرق بين فتح الكاف وبين كسرها في (مسكنهم) أن الفتح تفيد المصدر، والكسر تفيد الموضع، وقيل: إنهما لغتان في الموضع. والآيتان قيل: إنهم لم يكن بينهم شئ من هوام الأرض، نحو البق والبرغوث والعقرب وغير ذلك. وكان الغريب إذا دخل بلدهم وفي ثيابه قمل متن فهذه آية. والثانية أن المرأة كانت تأخذ على رأسها مكتلا فيمتلئ بالفواكه من غير أن تمس بيدها شيئا، ثم فسر الآيتين فقال " جنتان " أي هي جنتان. " عن يمين وشمال " قيل: عن يمين الوادي وشماله. " كلوا من رزق ربكم " أي كلوا من رزق الله الذي رزقكم في هاتين الجنتين، فلفظه لفظ الامر والمراد به الإباحة " واشكروا له " هذه النعمة التي أنعم بها عليكم. ثم بين أن تلك الجنتين " بلدة طيبة " التربة. وقيل البلدة الطيبة صنعاء أرضها طيبة ليس فيها سبخة و " رب غفور ".


1- سورة 38 ص آية 21.

2- تفسير الطبري 22 / 43 والقرطبي 14 / 271.

3- مجاز القرآن 2 / 144.

4- تفسير القرطبي 14 / 275.

5- تفسير الطبري 22 / 43.

6- تفسير الطبري 22 / 44 والقرطبي 14 / 279.