الآيات 51-55
قوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا، لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا، إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ﴿ ترجئ ﴾ مهموزة. الباقون بغير همز. من همز خففها ومن ترك الهمز لين، وهما لغتان يقال: أرجئت وأرجيت. وقرأ أبو عمرو وحده ﴿ لا تحل ﴾ بالتاء. الباقون بالياء. فمن قرأ بالتاء، فلان النساء مؤنثة. ومن قرأ بالياء حمله على اللفظ لان المعنى: لا يحل لك شئ من النساء. هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله يخيره في نسائه بين أن يرجئ منهن من شاء أي تؤخر وتبعد. قال ابن عباس: خيره الله بين طلاقهن وإمساكهن. وقال قوم: معناه تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء أمتك. وقال مجاهد: معناه تعزل من شئت من نسائك فلا تأتيها وتأتي من شئت من نسائك فلا تقسم لها، فعلى هذا يكون القسم ساقطا عنه فكان ممن أرجى ميمونة وأم حبيبة وصفية وسودة، فكان يقسم لهن من نفسه وماله ما شاء، وكان ممن يأوي عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكان يقسم نفسه وماله بينهن بالسوية. وقال زيد بن أسلم: نزلت في اللاتي وهبن أنفسهن فقال الله له تزوج من شئت منهن واترك من شئت، وهو اختيار الطبري وهو أليق بما تقدم. فالارجاء هو التأخير وهو من تبعيد وقت الشئ عن وقت غيره ومنه الارجاء في فساق أهل الصلاة، وهو تأخير حكمهم بالعقاب إلى الله ﴿ وتؤوي منهن من تشاء ﴾ فالايواء: ضم القادر غيره من الاحياء الذين من جنس ما يعقل إلى غيره أو ناحيته، تقول آويت الانسان آويه إيواء وأوى هو يأوي أويا إذا انضم إلى مأواه. وقوله ﴿ ومن ابتغيت ﴾ يعني من طلبت ﴿ ممن عزلت ﴾ قال قتادة: كان نبي الله يقسم بين أزواجه فأحل الله تعالى له ترك ذلك. وقيل ﴿ ومن ابتغيت ﴾ اصابته ممن كنت عزلت عن ذلك من نسائك. وقال الحسن ﴿ ترجي من تشاء منهن ﴾ تذكر المرأة للتزويج ثم ترجيها فلا تتزوجها ﴿ فلا جناح عليك ﴾ أي لا جناح عليك في ابتغاء من شئت وإرجاء من عزلت وإيواء من شئت ﴿ ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ﴾ أي أقرب إذا علمن أن الرخصة من قبل الله كان ذلك أقر لعينهن، وإنهن لا يطلقن وأشد لسرورهن وهو قول قتادة. وقيل ﴿ ذلك أدنى ان تقر أعينهن ﴾ إذا طمعت في ردها إلى فراشها بعد عزلها ﴿ ويرضين بما آتيتهن كلهن ﴾ رفع (كلهن) على تأكيد الضمير وهو النون في (يرضين) لا يجوز غير ذلك، لان المعنى عليه. ثم قال ﴿ والله يعلم ما في قلوبكم ﴾ من الرضا والسخط والميل إلى بعض النساء دون بعض ﴿ وكان الله عليما ﴾ بذلك ﴿ حليما ﴾ عن أن يعاجل أحدا بالعقوبة. وقوله ﴿ لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن ﴾ قال ابن عباس والحسن: بعد التسع اللاتي كن عنده واخترنه مكافأة لهن على اختيارهن الله ورسوله. وقال أبي بن كعب لا يحل لك من بعد أي حرم عليك ما عدا اللواتي ذكرن بالتحليل في " إنا أحللنا لك.... " الآية. وهن ست أجناس النساء اللاتي هاجرن معك وإعطائهن مهورهن وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه، ومن وهبت نفسها له بجميع ما شاء من العدد، ولا يحل له غيرهن من النساء. وقال مجاهد: " لا يحل لك النساء " من أهل الكتاب ويحل لك المسلمات. وروى أن حكم هذه الآية نسخ، وأبيح له ما شاء من النساء أي أي جنس أراد، وكم أراد، فروي عن عائشة انها قالت: لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله من دار الدنيا حتى حلل الله له ما أراد من النساء، وهو مذهب أكثر الفقهاء. وهو المروي عن أصحابنا في أخبارنا. " ولا ان تبدل بهن من أزواج " قال ابن زيد: معناه أن تعطي زوجتك لغيرك وتأخذ زوجته. لان أهل الجاهلية كانوا يتبادلون الزوجات. وقيل: معناه تطلق واحدة وتتزوج أخرى بعدها " ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك " استثناء الإماء أي اللاتي تملكهن من جملة ما حرم عليه من النساء " وكان الله على كل شئ رقيبا " أي عالما حافظا، فالرقيب الحفيظ - في قول الحسن وقتادة - قال الشاعر: لواحد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد (1) ثم خاطب المؤمنين فقال " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم " نهاهم عن دخول دور النبي بغير اذن " إلى طعام غير ناظرين إناه " أي بلوغه، وكان يداريهم، وهو نصب على الحال، يقال في الطعام: أناى يأني إذا بلغ حال النضج، قال الشاعر الشيباني:
تمخضت المنون له بيوم * اني ولكل حادثة تمام (2)
وقال الحطيئة:
وأخرت العشاء إلى سبيل * أو الشعري فطال بي الاناء (3)
وقال البصريون: لا يجوز (غير ناظرين) بالجر على صفة (طعام) لان الصفة إذا جرت على غير من هي له لم يضمر الضمير، وأجاز ذلك الفراء وانشد الأعشى: فقلت له هذه هاتها. الينا بأدماء مقتادها (4). والمعنى على يدي من اقتادها، وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: يدك باسطها، أي أنت. وقال الزجاج: لو جر (غير) لقال: إلى طعام غير ناظرين إناه أنتم، لا يجوز إلا ذلك. والمعنى غير منتظرين بلوغ الطعام. ثم قال " ولكن إذا دعيتم فادخلوا " والمعنى إذا دعيتم إلى طعام فادخلوا " فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث " أي تفرقوا ولا تقيموا ولا تستأنسوا بطول الحديث، وإنما منعوا من الاستئناس من اجل طول الحديث لان الجلوس يقتضي ذلك، والاستئناس هو ضد الاستيحاش، والانس ضد الوحشة، وبين تعالى فقال " لان ذلك " الاستئناس بطول الجلوس " كان يؤذي النبي فيستحيي منكم " أي من الحاضرين، فيسكت على مضض ومشقة " والله لا يستحيي من الحق " ثم قال " وإذا سألتموهن متاعا " يعني إذا سألتم أزواج النبي شيئا تحتاجون إليه " فاسألوهن من وراء حجاب " وستر " ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن " من الميل إلى الفجور. ثم قال " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " قال أبو عبيدة (كان) زائدة والمعنى ليس " لكم ان تؤذوا رسول الله " بطول الجلوس عنده، ومكالمة نسائه " ولا " يحل لكم أيضا " أن تنكحوا أزواجه من بعده ابدا " لأنهن صرن بمنزلة أمهاتكم في التحريم. وقال السدي: لما نزل الحجاب قال رجل من بني تيم أنحجب من بنات عمنا إن مات عرسنابهن، فنزل قوله " ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده ابدا إن ذلكم " إن فعلتموه " كان عند الله عظيما ". ثم قال لهم " إن تبدوا شيئا " أي إن أظهرتموه من مواقعة النساء " أو تخفوه فان الله كان بكل شئ عليما " لا يخفى عليه شئ من أعمالكم لا ظاهرة ولا باطنة. ثم استثنى لأزواج النبي صلى الله عليه وآله من يجوز لها محادثتهم ومكالمتهم، فقال " لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن " ولم يذكر العم والخال لأنه مفهوم من الكلام، لان قرباتهم واحدة، لأنهن لا يحللن لواحد من المذكورين بعقد نكاح على وجه، فهن محرم لهن " ولا نسائهن ولا ما ملكت ايمانهن " قال قوم: من النساء والرجال. وقال آخرون من النساء خاصة. وهو الأصح. وقال مجاهد: رفع الجناح - ههنا - في وضع الجلباب للمذكورين. وقال قتادة: في ترك الاحتجاب، ثم أمرهن بأن يتقين الله ويتركن معاصيه فقال " واتقين الله إن الله كان على كل شئ شهيدا " أي عالما لا يخفى عليه شئ من ذلك. وقال الشعبي وعكرمة: وإنما لم يذكر العم والخال، لئلا ينعتاهن لأبنائهما. وكان سبب نزول الآية لما نزل الحجاب، قوله " فاسألوهن من وراء حجاب " قال آباء النساء وأبناؤهن: ونحن أيضا مثل ذلك، فأنزل الله الآية وبين أن حكم هؤلاء بخلاف حكم الأجانب.
1- مجاز القرآن 2 / 140.
2- تفسير القرطبي 14 / 226.
3- تفسير القرطبي 14 / 226.
4- ديوانه (دار بيروت) روايته: فقلنا له هذه هاتها * بأدماء في حبل مقتادها.