الآيات 41-48
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا، وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾
هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين المصدقين بوحدانيته المقرين بصدق أنبيائه، يأمرهم بأن يذكروا الله ذكرا كثيرا، والذكر الكثير أن نذكره بصفاته التي يختص بها، ولا يشاركه فيها غيره، وننزهه عما لا يليق به. وروي في اخبارنا أن من قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثلاثين مرة، فقد ذكر الله كثيرا، وكل صفة لله تعالى فهي صفة تعظيم، وإذا ذكر بأنه شئ وجب أن يقال: إنه شئ لا كالأشياء، وكذلك أحد ليس كمثله شئ وكذلك القديم هو الأول قبل كل شئ، والباقي بعد فناء كل شئ. ولا يجوز أن يذكر بفعل ليس فيه تعظيم، لان جميع ما يفعله يستحق به الحمد والوصف بالجميل على جهة التعظيم، مثل الذكر بالغنى والكرم بما يوجب اتساع النعم، والذكر احضار معنى الصفة للنفس إما بايجاد المعنى في النفس ابتداء من غير طلب. والآخر بالطلب من جهة الفكر. والذكر قد يجامع العلم، وقد يجامع الشك. والعلم لا يجامع الشك في الشئ على وجه واحد. والذكر أيضا يضاد السهو، ولا يضاد الشك، كما يضاده العلم. وقوله ﴿ وسبحوه بكرة وأصيلا ﴾ أمر لهم بأن ينزهوا الله تعالى عن كل قبيح وجميع ما لا يليق به، بالغداة والعشي: قال قتادة: يعني صلاة الغداة وصلاة العصر، والأصيل العشي وجمعه أصائل، ويقال أصل وآصال، وهو أصل الليل أي أوله ومبدؤه، وقوله ﴿ هو الذي يصلي عليكم وملائكته ﴾ يترحم عليكم بايجاب الرحمة، ويصلي عليكم الملائكة بالدعاء والاستغفار، فالأول كالدعاء، والثاني دعاء. وقيل: معناه يثني عليكم بطريقة الدعاء، كقوله عليك رحمتي ومغفرتي. وقيل: معناه هو الذي يوجب عليكم الصلاة، وهي الدعاء بالخير، ويوجبه الملائكة بفعل الدعاء، وهذا مما يختلف فيه معنى صفة الله تعالى وصفة العباد، كتواب بمعنى كثير القبول للتوبة وتواب بمعنى كثير فعل التوبة. وقال الأعشى:
عليك مثل الذي صليت فاعتصمي * يوما فان لجنب المرئ مضطجعا (1)
فمن رفع (مثل) فإنما دعا لها مثل ما دعت له. ومن نصب أمرها بأن تزداد من الدعاء أي عليك بمثل ما قلت. وقوله ﴿ ليخرجكم من الظلمات إلى النور ﴾ معناه ليخرجكم من الجهل بالله إلى معرفته، فشبه الجهل بالظلمات، والمعرفة بالنور، وإنما شبه العلم بالنور، لأنه يقود إلى الجنة، فهو كالنور. والكفر يقود إلى النار - نعوذ بالله منها - وقال ابن زيد: معناه ليخرجكم من الضلالة إلى الهدى. ثم اخبر تعالى انه ﴿ كان بالمؤمنين رحيما ﴾ حين قبل توبتهم وخلصهم من العقاب إلى الثواب بما لطف لهم في فعله. وقوله ﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام " أي يحيي بعضهم بعضا يوم يلقون ثواب الله بأن يقولوا السلامة لكم من جميع الآفات والفوز بنعيم ثواب الله. ولقاء الله لقاء ثوابه لا رؤيته، لأنه بمنزلة قوله ﴿ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ﴾ (2) وبمنزلة قول النبي صلى الله عليه وآله (من حلف على يمين كاذبة يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) ولا خلاف أن هؤلاء لا يرون الله. وقوله ﴿ وأعد لهم أجرا كريما ﴾ أي ثوابا جزيلا. ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله فقال ﴿ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ﴾ أي شاهدا على أمتك في ما يفعلونه من طاعة الله أو معصيته أو إيمان به أو كفر، لتشهد لهم يوم القيامة أو عليهم، فأجازيهم بحسبه، ومبشرا لهم بالجنة وثواب الأبد إن أطاعوني واجتنبوا معصيتي. ﴿ ونذيرا ﴾ أي مخوفا من النار وعقاب الأبد بارتكاب المعاصي وترك الواجبات ﴿ وداعيا ﴾ اي وبعثناك داعيا لهم تدعوهم ﴿ إلى الله باذنه ﴾ والاقرار بوحدانيته وامتثال ما أمرهم به، والانتهاء عما نهاهم عنه ﴿ وسراجا منيرا ﴾ أي أنت بمنزلة السراج الذي يهتدي به الخلق. والمنير هو الذي يصدر النور من جهته إما بفعله، وإما لأنه سبب له، فالقمر منير، والسراج منير بهذا المعنى، والله منير السماوات والأرض. وقال الزجاج ﴿ وداعيا إلى الله باذنه وسراجا ﴾ وبعثناك ذا سراج، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وأراد بالسراج القرآن الذي يحتاجون إلى العمل به. ثم امر نبيه صلى الله عليه وآله بأن ﴿ يبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ﴾ أي زيادة على ما يستحقونه من الثواب كثيرا، ثم نهاه عن طاعة الكفار الجاحدين لله والمنكرين لنبوته فقال ﴿ ولا تطع الكافرين ﴾ الذين يتظاهرون بالكفر، ولا " المنافقين " الذين يظهرون الاسلام، ويبطنون الكفر، ولا تساعدهم على ما يردونه ﴿ ودع أذاهم ﴾ أي اعرض عن أذاهم. فانا أكفيك أمرهم إذا توكلت علي، وعملت بطاعتي فان جميعهم في سلطاني بمنزلة ما هو في قبضة غيري. ثم قال ﴿ وتوكل على الله) أي اسند أمرك إليه واكتف به ﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾ اي كافيا ومتكفلا ما يسنده إليه. وقوله ﴿ وشاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا، وسراجا ﴾ كل ذلك نصب على الحال.
1- ديوانه (دار بيروت) 106 وقد مر في 5 / 331 من هذا الكتاب.
2- سورة 9 التوبة آية 78.