الآيات 26-30

قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا، يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير، وابن عامر " نضعف " بالنون وتشديد العين " العذاب " نصبا، أسند الفعل إلى الله تعالى. وقرأ أبو عمرو " يضعف " بالياء وتشديد العين بلا ألف على ما لم يسم فاعله. الباقون (يضاعف) بالياء والألف. والذي عليه أكثر المفسرين إن المعني بقوله " وانزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب " هم بنو قريظة من اليهود، وكانوا نقضوا العهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وعاونوا أبا سفيان، فلما هزم الأحزاب امر النبي صلى الله عليه وآله مناديه بأن ينادي لا يصلين أحد العصر إلا ببني قريظة، لان جبرائيل عليه السلام نزل عليه وقال إن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد، ففيهم من لحق ذلك بعد وصلى العصر في الوقت، وفيهم من صلاها قبل ذلك. وكل صوبه رسول الله. ثم حكم سعد ابن معاذ فيهم رضوا بحكمه، فحكم سعد أن تقتل الرجال، وتسبى الذراري والنساء ونقسم الأموال وتكون الأرض للمهاجرين دون الأنصار، فقيل له في ذلك فقال لكم دار، وليس للمهاجرين دار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله حكم فيهم بحكم الله تعالى، وفي بعض الأخبار لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، وهو جمع رقيع اسم من أسماء سماء الدنيا. وقال الحسن: الآية نزلت في بني النضير والأول أصح وأليق بسياق الآيات، لان بني الضير لم يكن لهم في قتال الأحزاب شئ، وكانوا قد انجلوا قبل ذلك. والمظاهرة المعاونة، وهي زيادة القوة بأن يكون المعاون ظهرا لصاحبه في الدفع عنه، والظهر المعين. وفي قراءة ابن مسعود آزروهم، ومعناه عاونوهم. والصياصي الحصون التي يمتنع بها واحدها صيصية. ويقال جذ الله صيصية فلان أي حصنه الذي يمتنع به. والصيصية قرن البقرة وشوكة الديك أيضا، وهي شوكة الحائك أيضا، قال الشاعر:

ما راعني إلا الرماح تنوشه * كوقع الصياصي في النسيج الممدد (1)

وقوله " وقذف في قلوبهم الرعب " أي ألقى في قلوبهم يعني اليهود والمشركين خوفا من النبي صلى الله عليه وآله " فريقا تقتلون " منهم يعني الرجال " وتأسرون فريقا " يعني النساء والذراري ثم قال " وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم " يعني ديار بني قريظة وأرضهم وأموالهم. جعلها الله للمسلمين مع ذلك ونقلها إليهم " وأرضا لم تطؤها " معناه وأورثكم أرضا لم تطؤها، قال الحسن: هي أرض فارس والروم. وقال قتادة: هي مكة. وقال يزيد بن رومان وابن زيد: هي خيبر " وكان الله على كل قديرا " أي قادرا على توريثكم أرض هؤلاء وأموالهم ونصركم وغير ذلك. إلى ههنا انتهت قصة الأحزاب. ثم انتقل إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله فقال له " يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا " قال الحسن لم يكن ذلك تخيير طلاق، إنما هو تخيير بين الدنيا والآخرة. وكان لنزول الآية سبب معروف من بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله فعاتبهن الله تعالى وخيرهن بين المقام مع النبي صلى الله عليه وآله واختيار ما عند الله من الثواب ونعيم الأبد ومن مفارقته بالطلاق وتعجيل المنافع يأخذونها، وبين ذلك بقوله " وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار والآخرة، فان الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما " وقيد ذلك بالمحسنات لعلمه أن فيهن من ربما ارتكبت ما يستحق به الخروج عن ولاية الله تعويلا على ما وعد الله تعالى به من النعيم، فزجرهن بالتهديد المذكور في الآية. وروي أن سبب نزول هذه الآية أن كل واحدة من نسائه طلبت شيئا فسألت أم سلمة سترا معلقا وسألت ميمونة حلة وسألت زينب بنت جحش بردا يمانيا وسألت أم حبيبة ثوبا سحوانيا وسألت حفصة ثوبا من ثياب مصر وسألت حويرية معجرا وسألت سودة قطيفة خيبرية، فلم يقدر على ذلك، لان الله تعالى كان خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة. وقال: (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني مسكينا في جملة المساكن) فحينئذ أمره الله تعالى بتخيير النساء، فاخترن الله ورسوله فعوضهن الله عن ذلك أن جعلهن أمهات المؤمنين. وقيل: وأمر الله أن لا يطلقهن ولا يتزوج عليهن بقوله " لا يحل لك النساء من بعد " (2) ذكره ابن زيد. ثم خاطب نساء النبي صلى الله عليه وآله فقال " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة يضاعف لها العذاب " من شدد أراد التكثير، ومن أثبت الألف أراد من المضاعفة، ومن قرأ بالنون أضاف الفعل إلى الله، لان الفاعل لذلك هو الله وإنما جاز ان يضعف عقابهن بالمعصية لعظم قدرهن، وأن معصيتهن تقع على وجه يستحق بها ضعف ما يستحق غيرهن، كما أن طاعاتهن يستحق بها ضعف ما يستحق به غيرهن، من حيث كن قدرة في الاعمال وأسوة في ذلك. ثم اخبر تعالى أن تضعيف ذلك عليه يسير سهل. والضعف مثل الشئ الذي يضم إليه، ضاعفته ازددت عليه مثله، ومنه الضعف، وهو نقصان القوة بأن يذهب أحد ضعفيها، فهو ذهاب ضعف القوة. قال أبو عبيدة: يضاعف لها ضعفين أي يجعل لها العذاب ثلاثة أعذتة لان ضعف الشئ مثله، وضعفي الشئ مثلاه ومجاز يضاعف أن يجعل إلى الشئ شيئان حتى يكون ثلاثة، فأما من قرأ ﴿ يضعف ﴾ أراد أن يجعل الشئ شيئين، وذكر بعضهم أن ذلك غلط على أبي عمرو في تشديد يضعف، لان ذلك نقل عنه على حكاية الفرق بين يضاعف ويضعف بالتشديد، وليس بينهما فرق، لان المضاعفة والتضعيف شئ واحد وإنما قرأ أبو عمرو ﴿ يضعف ﴾ بضم الياء وتسكين الضاد وتخفيف العين وفتحها والفرق يقع بين هذه وبين يضاعف لأنك تقول لمن أعطاك درهما فأعطيته مكانه درهمين: أضعفت لك العطية، فان أعطيته مكان درهم خمسة أو ستة قلت ضاعفت له العطية وضعفت بالتشديد أيضا، فلما رأى أبو عمرو أن من أحسن من أزواج النبي أعطي أجرين علم آن من أذنب منهن عوقب عقوبتين، فقرأ يضعف لها العذاب ضعفين. وكان الحسن لا يرى التخيير شيئا. وقال: إنما خيرن بين الدنيا والآخرة لا في الطلاق، وكذلك عندنا ان الخيار ليس بشئ غير أن أصحابنا قالوا إنما كان ذلك لنبي الله خاصة، ولما خيرهن لو اخترن أنفسهن لبن، فلما غيره فلا يجوز له ذلك. وقال قتادة: خيرهن الله تعالى بين الدنيا والآخرة في شئ كن أردن من الدنيا. وقال عكرمة: في غيرة كانت غارتها عائشة، وكان تحته يومئذ تسع نسوة خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بن أبي أمية، وسودة بنت زمعة. وكان تحته صفيه بنت حي ابن خطب وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق، فلما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله.


1- تفسير القرطبي 14 / 161 ومجاز القرآن 2 / 161 ويروى (فجئت إليه والرماح تنوشه).

2- آية 52 من هذه السورة.