الآيات 16-20
قوله تعالى: ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلًا، قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلًا﴾
لما اخبر الله تعالى عن المنافقين الذين استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله في الرجوع واعتلوا بأن بيوتهم يخاف عليها، وكذبهم الله في ذلك، وبين أنهم يريدون الهرب، قال لنبيه صلى الله عليه وآله ﴿ قل ﴾ لهم ﴿ لن ينفعكم الفرار إن فررتم ﴾ يعني الهرب إن هربتم ﴿ من الموت أو القتل ﴾ فإنه لابد من واحد منهما، وإن هربتم وبقيتم بعده فلا تبقون ﴿ ولا تتمتعون إلا قليلا ﴾ من الزمان. ثم لابد من الموت. والفرار الذهاب عن الشئ خوفا منه، ومثله الهرب، فر يفر فرارا وأفتر إذا باعد بين شفتيه كتباعد الفار، وإنما فرق الله بين الموت والقتل لان القتل غير الموت، فالقتل نقض بينة الحي، والموت ضد الحياة عند من أثبته معنى، والقتل يقدر عليه غير الله، وإنما رفع بعد (اذن) لوقوع (اذن) بين الواو والفعل، فصارت بمنزلة ما لم يقع بعده الفعل، كقولك أنا آتيك اذن لأنه مما يجوز فيه الالغاء بأنه يصح الاستدراك، كالاستدراك بالظن، وقد اعملت بعد (ان) في قوله:
لا تتركني فيهم شطيرا * إني اذن أهلك أو اطيرا (1)
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله قل لهم يا محمد من الذي يمنعكم من الله ان أراد أن يفعل بكم سوءا يعني عذابا أو أراد بكم رحمة، فان أحدا لا يقدر على منعه مما يريد الله فعله به (ولا يجدون) هؤلاء ﴿ لهم من دون الله وليا ﴾ ينصرهم ﴿ ولا نصيرا ﴾ يدفع عنهم، ثم قال تعالى ﴿ قد يعلم الله المعوقين منكم ﴾ يعني الذين يعوقون غيرهم عن القتال ويثبطونهم عنه، فالتعويق التثبيط والشغل للقعود عن أمر من الأمور، فكأن هؤلاء يدعون اخوانهم من المنافقين إلى القعود عن الجباد ويشغلونهم لينصرفوا عنه ﴿ والقائلين لاخوانهم هلموا الينا ﴾ أي يعلم القائلين لهم تعالوا ﴿ ولا يأتون البأس ﴾ يعني الحرب ﴿ إلا قليلا ﴾ أي ان يكلفوا الحضور إلى القتال فلا يحضرون إلا قدر ما يوهمون أنهم معكم، ولا يقاتلون معكم، فهو تعالى عالم بأحوال هؤلاء، لا يخفى عليه شئ منها. ثم قال ﴿ أشحة عليكم ﴾ بالغنيمة والنفقة في سبيل الله - في قول قتادة: ومجاهد - ونصبه على تقدير يأتونه أشحة وإن شئت على الذم. وقال ابن إسحاق ﴿ أشحة عليكم ﴾ بالضغن الذي في أنفسهم، فهو نصب على الحال - في قول الزجاج - وفي قول غيره على المصدر، وتقديره يشحون عليكم أشحة ﴿ فإذا جاء الخوف ﴾ يعني الفزع ﴿ رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ﴾ يعني من شدة ما يخافون يلحقهم مثل ما يلحق من شارف الموت وأحواله، ويغشى عليه ﴿ فإذا ذهب الخوف ﴾ والفزع ﴿ سلقوكم بالسنة حداد ﴾ أي خصموكم طلبا للغنيمة أشد مخاصمة. وقال الحسن: سلقوكم حاوروكم يقال: خطيب مصقع ومسلق أي بليغ في الخطابة فصيح فيها ﴿ أشحة على الخير ﴾ يعني الغنيمة. ثم قال ﴿ أولئك ﴾ يعني من تقدم وصفه ﴿ لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم ﴾ يعني نفع أعمالهم على وجوه لا يستحق عليها الثواب لأنهم لا يقصدون بها وجه الله. ثم قال ﴿ وكان ذلك ﴾ يعني احباط اعمالهم. وقيل: وكان نفاقهم ﴿ على الله يسيرا ﴾ قليلا. ثم وصف هؤلاء المنافقين الذين تقدم ذكرهم بالجبن، فقال ﴿ يحسبون الأحزاب ﴾ الذين انهزموا ورجعوا من شدة فزعهم انهم ﴿ لم يذهبوا ﴾ بعد. وقيل: لفرط جهلهم يعتقدون انهم لم يذهبوا بعد ﴿ وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بأدون في الاعراب ﴾ أي وإن جاؤوا الأحزاب تمنوا أن يكونوا في البوادي مع الاعراب ﴿ يسألون عن انبائكم ﴾ أي أخباركم ولا يكونون معكم فيتربصون بكم الدوائر ويتوقعون الهلاك. ثم قال لنبيه ﴿ ولو كانوا ﴾ يعني هؤلاء المنافقون معكم " وفيكم ما قاتلوا إلا قليلا " أي قدرا يسيرا ليوهموا أنهم في جملتكم، لا لينصروكم ويجاهدوا معكم. وقال عاصم الجحدري: يساءلون عن انبائكم بتشديد السين بمعنى يتساءلون، فيسأل بعضهم بعضا، وهو شاذ لا يقرأ به. وقرأ طلحة بن مصرف " يودوا لو أنهم بدى في الاعراب " جمع باد، مثل غاز وغزى، وهي أيضا شاذة لا يقرء بها. و (هلم) بمعنى أقبل وأهل الحجاز يقولون للواحد والاثنين والجمع والأنثى (هلم) بلفظ واحد، وإنما هي (لم) ضمت إليها (ها) التي للتنبيه، ثم حذفت الألف من (ها) إذ صارا شيئا واحدا، كقولهم (ويلمه) واصله (ويل أمه) فلما جعلوهما شيئا واحدا حذفوا، وغيروا. وأما بنوا تميم فيصرفونه تصريف الفعل، فيقولون: هلم يا رجل وهلما يا رجلان، وهلموا يا رجال وهلمي يا امرأة وهلميا يا امرأتان، وهلممن يا نساء، إلا انهم يفتحون آخر الواحد البتة، فيقولون: هلم يا رجل وهلم يا مرأة.1- قائله نهشل بن حرى، اللسان (شطر).