الآيات 6-10
قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إلى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا، لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾
القراءة:
قرأ بن كثير والكسائي وحفص عن عاصم " الظنونا " بألف في الوقف دون الوصل. وقرأ نافع وأبو جعفر وأبو بكر عن عاصم وابن عامر - بالألف - فيهما وقرأ أبو عمرو ويعقوب وحمزة - بغير الف - فيهما وفي المصحف بألف. أثبت الألف أثبته لأجل الفواصل التي يطلب بها تشاكل المقاطع، ولان الألف ثابتة في المصاحف، فاتبعوا المصحف، ومن حذف قال: لان هذا الألف يكون بدلا من التنوين في حال الوقف، فإذا دخلت الألف واللام أسقطت التنوين، فقط أيضا ما هو بدل منه، ولان مثل ذلك إنما يجوز في القوافي وذلك لا يليق بالقرآن، قال الشاعر:
اقلي اللوم عاذل والعتابا * وقولي ان أصبت لقد أصابا (1)
اخبر الله تعالى ان " لنبي " صلى الله عليه وآله " أولى بالمؤمنين من أنفسهم " بمعنى أحق بتدبيرهم، وبأن يختاروا ما دعاهم إليه. وأحق بأن يحكم فيهم بما لا يحكم به الواحد في نفسه لوجوب طاعته التي هي مقرونة بطاعة الله، وهو أولى في ذلك وأحق من نفس الانسان، لأنها ربما دعته إلى اتباع الهوى، ولان النبي صلى الله عليه وآله لا يدعو إلا إلى طاعة الله، وطاعة الله أولى ان تختار على طاعة غيره. وواحد الأنفس نفس، وهي خاصة الحيوان الحساسة المدركة التي هي أنفس ما فيه. ويحتمل أن يكون اشتقاقه من التنفس، وهو التروح، لان من شأنها التنفس به، ويحتمل أن يكون مأخوذا من النفاسة، لأنها اجل ما فيه وأكرمه. ثم قال " وأزواجه أمهاتكم " والمعنى أنهن كالأمهات في الحرمة، وتحريم العقد عليهن. ثم قال " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين " أولوا الأرحام هم أولوا الأنساب. لما ذكر الله أن أزواج النبي أمهاتهم في الحكم من جهة عظم الحرمة، قال " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " أي الا ما بين الله في كتابه مما لا يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وآله أن يدعين أمهات المؤمنين. وقال قتادة: كان الناس يتوارثون بالهجرة فلا يرث الاعرابي المسلم المهاجر حتى نزلت الآية. وقيل: إنهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الأولى. ثم نسخ ذلك، فبين الله تعالى أن " أولى الأرحام بعضهم اولي ببعض " أي من كان قرباه أقرب فهو أحق بالميراث من الابعد، وظاهر ذلك يمنع أن يرث مع البنت والام أحد من الاخوة والأخوات، لان البنت والام أقرب من الاخوة والأخوات، وكذلك يمنع أن يرث مع الأخت أحد من العمومة والعمات وأولادهم، لأنها أقرب، والخبر المروي في هذا الباب أن (ما أبقت الفرائض فلأولي عصبة ذكر) خبر واحد مطعون على سنده، لا يترك لأجله ظاهر القرآن الذي بين فيه ان أولي الأرحام الأقرب منهم أولى من الابعد " في كتاب الله من المؤمنين " المؤاخين والمهاجرين. وقوله " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " استثناء منقطع، ومعناه لكن إن فعلتم إلى أوليائكم معروفا من المؤمنين وحلفائكم ما يعرف حسنه وصوابه فهو حسن، ولا يكون على وجه نهى الله تعالى عنه، ولا أذن فيه. وقال مجاهد معروفا من الوصية لهم بشئ، والعقل عنهم والنصرة لهم، ولا يجوز أن يكونوا القرابة المشركين على ما قال بعضهم، لقوله " لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء " (2) وقد أجاز كثير من الفقهاء الوصية للقرابات الكفار. وعندنا ان ذلك جائز للوالدين والولد. وقوله " كان ذلك في الكتاب مسطورا " يعني أن ما ذكره الله كان مكتوبا في الكتاب المحفوظ أثبته الله وأطلع عليه ملائكته لما لهم في ذلك من اللطف فلا يجوز خلاف ذلك، وقيل: مسطورا في القرآن. و (من) يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون دخلت ل? (أولى) أي بعضكم أولى ببعض من المؤمنين.
والثاني: أن يكون التقدير، وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين أولى بالميراث. وقوله " وإذ أخذنا من النبيين " تقديره واذكر يا محمد حين اخذ الله من النبيين ميثاقهم، قال ابن عباس: الميثاق العهد والميثاق الغليظ اليمين بالله تعالى على الوفاء بما حملوا. وقوله " ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم واخذنا منهم ميثاقا غليظا " يعني ما عهد الله تعالى إلى الأنبياء المذكورين وأمرهم به من اخلاص العبادة له، وخلع الأنداد من دونه، والعمل بما أوجبه عليهم وندبهم إليه، ونهاهم عن معاصيه، والاخلال بواجباته. وقال البلخي: معناه ما أمرهم الله به من أداء الرسالة والقيام بها. وقوله " ليسأل الصادقين عن صدقهم " قال مجاهد: معناه فعل ذلك ليسأل الأنبياء المرسلين ما الذي أجاب به أممكم، ويجوز ان يحمل على عمومه في كل صادق، ويكون فيه تهديد للكاذب، فان الصادق إذا سئل عن صدقه على اي وجه قال فيجازي بحسبه، فكيف يكون صورة الكاذب. ثم قال " واعد للكافرين عذابا أليما " أي أعد لهم عذابا مؤلما، وهو عذاب النار - نعوذ بالله منها. ثم خاطب المؤمنين فقال " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود " أي في حال ما جاءتكم جنود يعني يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق حيث اجتمعت العرب على قتال النبي صلى الله عليه وآله قريش وغطفان وبنو قريظة وتضافروا على ذلك " فأرسلنا عليهم " اي فأرسل الله تعالى عليهم نصرة لنبيه ونعمة على المؤمنين " ريحا " استقبلتهم ورمت في أعينهم الحصباء واكفئت قدورهم وأطفئت نيرانهم، وقلعت بيوتهم واطنابهم وارسل الله عليهم " جنودا " من الملائكة نصرة للمؤمنين، روى ذلك يزيد بن رومان " لم تروها " اي لم تروا الملائكة أنتم بأعينكم، لأنها أجسام شفافة لا يصح إدراكها " وكان الله بما تعملون بصيرا " من قرء بالياء أراد ان الله عالم بما يعمله الكفار. ومن قرأ بالتاء وجه الخطاب إلى المؤمنين. ثم قال واذكر " إذ جاؤكم " يعني جنود المشركين ﴿ من فوقكم ﴾ وهم عيينة بن حصين بن بدر في أهل نجد ﴿ ومن أسفل منكم ﴾ وهم أبو سفيان في قريش وواجهتهم قريظة، وهو قول مجاهد: ﴿ وإذ زاغت الابصار ﴾ أي اذكر إذ عدلت الابصار عن مقرها. قال قتادة معناه: شخصت من الخوف ﴿ وبلغت القلوب الحناجر ﴾ أي نأت عن أماكنها من الخوف. وقيل: قال المسلمون: يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر فهل من شئ نقوله. قال: نعم قولوا ﴿ اللهم استر عورتنا وأمن روعتنا ﴾ فضرب الله وجوه أعدائه بريح الصبا، فهزمهم الله بها، والحناجر جمع حنجرة، وهي الحلق، قيل: لان الرئة عند الخوف تصعد حتى تلحق بالحلق ﴿ وتظنون بالله الظنونا ﴾ قال الحسن: كانت الظنون مختلفة، فظن المنافقون انه يستأصل، وظن المؤمنون انه سينصر. وقيل: كانت الريح شديدة البرد تمنع المشركين من الحرب وكانت الملائكة تفقد بعضهم عن بعض.
1- قائله جرير ديوانه 58 وسيبويه 2 / 28، 299.
2- سورة 60 الممتحنة آية 1.