الآيات 26-30
الآيات 26-30
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إلى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ﴾
القراءة:
القراء كلهم على الياء في قوله " أولم يهد لهم " بمعني أولم يهد إهلاكنا لهم لمن مضى من القرون. وقرئ بالنون بمعنى الاخبار عن الله تعالى أنه الذي بين لهم هلاك الماضين وأرشدهم بذلك إلى الحق وأتباعه، فأضافه إلى نفسه. يقول الله تعالى منبها لخلقة على وجه الاعتبار بحججه " أو لم يهد لهم " ومعناه أو لم يبصرهم ويرشدهم من غوايتهم، يقال: هداه يهديه في الدين هدى، وهدي إلى الطريق هداية، واهتدى إذا قبل الهداية. والواجب من الهدى: هو ما يؤدي إلى ما ليس للعبد عنه غنى في دينه، فاللطف على هذا هدى. والنظر المؤدي إلى معرفة الله هدى. وفاعل " يهد " مضمر فيه، وتقديره أو لم يهد لهم إهلاكنا من أهلكناهم من القرون الماضية جزاء على كفرهم بالله وارتكابهم لمعاصيه، ولا يجوز أن يكون فاعل " يهد " كم " في قوله " كم أهلكنا لان " كم " لا يعمل فيها ما قبلها إلا حروف الإضافة، لأنها على تقدير الاستفهام الذي له صدر الكلام، وأجاز الفراء أن يكون فاعل " يهد " " كم " ولم يجزه البصريون. وقوله " يمشون في مساكنهم " اي أهلكناهم بغتة وهم متشاغلين بنفوسهم ويمشون في منازلهم. ثم قال " إن في ذلك لآيات " أي لحججا واضحات " أفلا يسمعون " ومعناه أفلا يتدبرون ما يسمعونه من هذه الآيات، لان من لا يتدبر ما يسمعه، ولا يفكر فيه. فكأنه لم يسمعه. ثم نبههم على وجه آخر فقال " أو لم يروا " ومعناه أو لم يعلموا " أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه انعامهم وأنفسهم " فالسوق الحث على السير، ساقه يسوقه سوقا، فهو سائق، يقول الله تعالى نسوق ماء المطر إلى هذه الأرض الجرز، فننبت به ضروبا من النبات الذي يتغذى به الانسان والانعام وغيرهم والأرض الجرز هي الأرض اليابسة التي ليس فيها نبات، انقطع ذلك لانقطاع الأمطار، وهو مشتق من قولهم: سيف جراز أي قطاع، لا يلقى على شئ إلا قطعه وناقة جراز، إذا كانت تأكل كل شئ لأنها لا تبقي شيئا إلا قطعته بفيها وأرض جروز، وهي التي لا تبقي على ظهرها شيئا إلا أهلكته، كالناقة الجراز ورجل جروز أكول، قال الراجز:
خب جروز إذا جاع بكا * ا يأكل التمر ولا يلقي النوى ا (1)
وفيه أربع لغات أرض جرز - بضم الجيم والراء، وبضم الجيم واسكان الراء وبفتح الجيم والراء، وبفتح الجيم واسكان الراء. وقال ابن عباس ﴿ نسوق الماء ﴾ بالسيول، لأنها مواضع عالية، قال وهي: قرى بين اليمن والشام. ثم قال ﴿ أفلا يبصرون ﴾ بأن يفكروا في ذلك فيدلهم على أنه لا يقدر على ذلك أحد غير الله الذي لا شريك له. ثم حكى عنهم أنهم ﴿ يقولون متى هذا الفتح ان كنتم صادقين ﴾ مستعجلين لما وعد الله تعالى من الفصل بينهم في قوله ﴿ ان ربك هو يفصل بينهم ﴾ يعنون متى يجئ فتح الحكم بينا وبينكم في الثواب والعقاب، والفتح القضاء والحكم، وقيل: انه أراد به فتح مكة، فعلى هذا قوله ﴿ يوم الفتح ﴾ يوم فتح مكة ﴿ لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ﴾ لا يليق به. وقيل: لا ينفع الذين قبلهم خلد - من بني كنانة - ايمانهم. والتأويل هو الأول، فقال الله تعالى لنبيه محمد ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ يوم الفتح ﴾ أي يوم القضاء والفصل. وقال مجاهد: يوم القيامة ﴿ لا ينفع الذين كفروا ﴾ بآيات الله ﴿ إيمانهم ﴾ لان التكليف قد زال عنهم، ومعارفهم تحصل ضرورة ﴿ ولا هم ينظرون ﴾ أي ولا يؤخرون أيضا، فلا ينبغي ان يستعجلوا مجيئه. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله ﴿ فأعرض عنهم ﴾ يا محمد، فإنه لا ينفع فيهم الدعاء والوعظ. وقيل: كان ذلك قبل أن يؤمر بالجهاد. وقيل: أعرض عن أذاهم ﴿ وانتظر ﴾ حكم الله تعالى فيهم وإهلاكه لهم ﴿ فإنهم منتظرون ﴾ أيضا الموت الذي يؤديهم إلى ذلك. وقيل: انه سيأتيهم ذلك، فكأنهم كانوا ينتظرونه.
1- تفسير القرطبي 14 / 110.