الآيات 16-20
قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ، أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾
القراءة:
قرأ " أخفي " باسكان الياء حمزة ويعقوب. الباقون - بفتح الياء - من سكن الياء جعله فعلا مستقبلا وحجته قراءة عبد الله " ما تخفي لهم " ومن فتح جعله فعلا ماضيا على ما لم يسم فاعله، فعلى قراءة حمزة (ما) نصب مفعول به، وعلى ما في القرآن إن موضع (ما) رفع بما لم يسم فاعله. والله فاعله و ﴿ قرة أعين ﴾ شئ أعده الله لعباده لم يطلعهم عليه في دنياهم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله (هو مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) وصف الله تعالى المؤمنين الذين ذكرهم في الآية الأولى في هذه الآية بأن قال: وهم الذين لا يستنكفون عن عبادته " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " أي يرتفعون عن مواضعهم التي ينامون عليها فالتجافي تعاطي الارتفاع عن الشئ، ومثله النبو يقال جفا عنه يجفو جفاء إذا نبا عنه. وتجافى عنه يتجافى تجافيا، واستجفاه استجفاء والمضجع موضع الاضجاع، والاضطجاع هو القاء النفس " يدعون ربهم " أي داعين ربهم الذي خلقهم وأوجدهم ﴿ خوفا ﴾ من عذابه يسألونه المغفرة ﴿ وطمعا ﴾ في ثوابه. وانتصب ﴿ خوفا، وطمعا ﴾ على أنه مفعول له أي للخوف وللطمع ﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ في طاعة الله وسبيل ثوابه. ووجه المدح بذلك أن هؤلاء المؤمنين يقطعهم اشتغالهم بالدعاء لله عن طيب المضطجع لما يأملون به من الخير والبركة من الله تعالى، لان آمالهم مصروفة إليه، واتكالهم في أمورهم عليه، وقال الشاعر في التجافي:
وصاحبي ذات هباب دمشق * وابن ملاط متجاف ادفق (1)
أي متنح عن كركرتها، وقال أنس وقتادة: انه مدح قوما كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء. وقال الضحاك: انهم كانوا يذكرون الله بالدعاء والتعظيم وقال قتادة: ﴿ خوفا ﴾ من عذاب الله ﴿ وطمعا ﴾ في رحمة الله ﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ في طاعة الله. وقال أبو جعفر، وأبو عبد الله عليهما السلام الآية متناولة لمن يقوم إلى صلاة الليل عن لذيذ مضجعه وقت السحر، وبه قال معاذ والحسن ومجاهد. وقال عبد الله بن رواحة في صفة النبي صلى الله عليه وآله:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
ثم قال تعالى ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾ تحتمل (ما) في قوله ﴿ ما أخفي ﴾ أن تكون بمعنى الذي ويكون موضعها النصب، ويحتمل أن تكون بمعنى (أن) ويكون موضعها الرفع، وتكون الجملة في موضع نصب، والمعنى ليس يعلم أحد كنه ما أعد الله لهؤلاء المؤمنين الذين تقدم وصفهم من أنواع اللذات والأشياء التي تقر أعينهم بها على كنه معرفتها. وقولهم قرت عيناه أي فرحها الله. لان المستبشر الضاحك يخرج من عينه ماء بارد من شؤونه. والباكي جزعا يخرج من عينيه ماء سخن من الكبد، ومنه قولهم: سخنت عينه - بكسر الخاء - ﴿ جزاء بما كانوا يعملون ﴾ من الطاعات في دار التكليف، وإنما نفى العلم عنهم مع أن المؤمن يعلم أنه مستحق للثواب، لان العلم بالشئ يكون من وجهين:
أحدهما: ان يعلم الشئ على طريق الجملة، وهو الذي يحصل للمؤمن في دار التكليف.
والآخر: ان يحصل على طريق التفصيل، وذلك موقوف على مشاهدتهم للثواب الذي يرونه عند زوال التكليف وحضور الثواب. ثم قال تعالى ﴿ أفمن كان مؤمنا ﴾ مصدقا بالله عارفا به وبأنبيائه عاملا بما أوجبه الله عليه وندبه إليه ﴿ كمن كان فاسقا ﴾ خارجا عن طاعة الله بارتكاب معاصيه على وجه الانكار لذلك، فلذلك جاء به على لفظ الاستفهام، ثم اخبر تعالى بأنهم ﴿ لا يستوون ﴾ قط، لان منزلة المؤمن الثواب وأنواع اللذات، ومنزلة الفاسق العذاب وفنون العقاب. ثم فسر ذلك بما قال بعده فقال ﴿ اما الذين آمنوا ﴾ بالله وصدقوه وصدقوا أنبياءه ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ وهي الطاعات مع ذلك ﴿ فلهم جنات المأوى ﴾ فالمأوى المقام اي لهم هذه البساتين التي وعدهم الله بها يأوون إليها ﴿ نزلا بما كانوا يعملون ﴾ أي في مواضع لهم ينزلون فيها مكافأة لهم على طاعاتهم التي عملوها. وقال الحسن: ﴿ نزلا ﴾ أي عطاء نزلوه ﴿ وأما الذين فسقوا ﴾ بخروجهم عن طاعة الله إلى معاصيه ﴿ فمأواهم النار ﴾ يأوون إليها نعوذ بالله منها ﴿ كلما أرادوا ان يخرجوا منها ﴾ أي كلما كادوا وهموا بالخروج منها لما يلحقهم من العذاب ﴿ أعيدوا فيها ﴾ أي ردوا فيها وقال الحسن: كلما كادوا الخروج منها لأنها ترميهم بلهبها ضربوا بمقامع حتى يعودوا فيها، وقيل: لهم مع ذلك على وجه التقريع والتبكيت ﴿ ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ﴾ اي العذاب الذي كنتم به تجحدون في دار الدنيا ولا تصدقون به. وقال ابن أبي ليلى: نزلت الآية في رجل من قريش وعلي عليه السلام وقال غيره: إن هذه الآيات نزلت في علي ابن أبي طالب عليه السلام والوليد بن عقبة بن أبي معيط، فالمؤمن المراد به علي عليه السلام والفاسق هو الوليد بن عقبة، روي أنه لقيه يوما فقال لعلي: انا أبسط منك لسانا واحد منك سنانا، فقال علي: عليه السلام ليس كما قلت يا فاسق. فنزل قوله ﴿ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا.... ﴾ فقال قتادة: والله ما استووا، لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا عند الموت.1- مجاز القرآن 2 / 132.