الآيات 31-34
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
خمس آيات بصرى وشامي وأربع فيما عداهما عدوا ﴿ مخلصين له الدين ﴾ ولم يعده الباقون. يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله والمراد به جميع المكلفين منبها لهم على جهات نعمه التي أنعم بها عليهم وما يدلهم على أنه يستحق العبادة خالصا، فقال ﴿ ألم تر ﴾ ومعناه ألم تعلم ﴿ ان الفلك ﴾ وهي السفن تجري في البحر بنعمة الله عليكم ﴿ ليريكم من آياته ﴾ اي ليريكم بعض أدلته الدالة على وحدانيته، ووجه الدلالة في ذلك ان الله تعالى يجري الفلك بالرياح التي يرسلها في الوجوه التي تريدون المسير فيها، ولو اجتمع جميع الخلق ليجروا الفلك في بعض الجهات مخالفا لجهة الرياح لما قدروا على ذلك. وفي ذلك أعظم دلالة على أن المجري لها بالرياح هو القادر الذي لا يعجزه شئ، وذلك بعض الأدلة التي تدل على وحدانيته، فلذلك قال ﴿ من آياته ﴾ ثم قال ﴿ إن في ذلك لآيات ﴾ يعني في تسخير الفلك وإجرائها في البحر على ما بيناه لدلالات ﴿ لكل صبار ﴾ يعني الصبار على مشاق التكليف. وعلى ألم المصائب، وأذى الكفار ﴿ شكور ﴾ لنعم الله عليهم وأضاف الآيات إليهم لما كانوا هم المنتفعين بها، وإنما ذكر ﴿ كل صبار شكور ﴾ لان الصبر عليه بأمر الله، والشكر لنعم الله من أفضل ما في المؤمن. وقال الشعبي: الصبر نصف الايمان، والشكر نصف الايمان فكأنه قال: لكل مؤمن. ثم قال تعالى ﴿ وإذا غشيهم موج ﴾ يعني إذا غشي أصحاب السفن الراكبي البحر موج، وهو هيجان البحر ﴿ كالظلل ﴾ أي الماء في ارتفاعه وتغطيته ما تحته كالظلل، قال النابغة الجعدي: يصف البحر:
يغاشيهن اخضر ذو ظلال * على حافاته فلق الدنان (1)
شبه الموج لأنه يجئ منه شئ بعد شئ بالسحاب الذي يركب بعضه فوق بعض، ويكون اسودا بما فيه من الماء " دعوا الله مخلصين له الدين " أي طاعة العبادة، فالاخلاص إفراد المعنى من كل شائب كان من غيره، أي يخلصون الدعاء في هذه الحال لله تعالى دون الأصنام وجميع ما يعبدونه من دون الله " فلما نجاهم " أي خلصهم إلى البر وسلمهم من هول البحر " فمنهم مقتصد " قال قتادة: يعني منهم مقتصد في قوله مضمر لكفره. وقال الحسن: المقتصد المؤمن. وقيل: مقتصد على طريقة مستقيمة " وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور " فالختار الغدار بعهده أقبح الغدر، وهو صاحب ختل وختر أي غدر قال عمرو ابن معدي كرب:
فإنك لو رأيت أبا عمير * ملأت يديك من غدر وختر (2)
وقال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: الختار الغدار، ثم خاطب تعالى جميع المكلفين من الناس فقال " يا أيها الناس اتقوا ربكم " أمرهم باجتناب معاصيه خوفا من عقابه " واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده... " يعني يوم القيامة الذي لا يغني فيه أحد عن أحد، لا والد عن ولده ولا ولد عن والده، يقال: جزيت عنك أجزي إذا أغنيت عنك. وفيه لغة أخرى: أجزأ يجزئ من أجزأت بالهمزة. ثم قال " ان وعد الله حق " اي الذي وعدته من الثواب والعقاب حق لا خلف فيه " فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور " قال مجاهد وقتادة والضحاك: الغرور الشيطان. وقال سعيد بن جبير: هو يمنيك المغفرة في عمل المعصية. قال أبو عبيدة: الغرور كل شئ غرك حتى تعصي الله، وتترك ما أمرك به الله، شيطانا كان أو غيره، فهو غرور. وهو أحسن، لأنه أعم. ثم قال تعالى " إن الله عنده علم الساعة " يعني وقت قيام القيامة يعلمه تعالى لا يعلمه سواه " وينزل الغيث " أي وهو الذي يعلم وقت نزول الغيث بعينه وهو الذي " يعلم ما في الأرحام " من ذكر أو أنثى " وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت " يقال: بأي ارض وبأية ارض. من قال: بأي، فلان تأنيث الأرض بالصيغة لا باللفظ. ومن قال: بأية ارض فلان الأرض مؤنثة. والمعنى انه لا يعلم موت الانسان في أي موضع من البلاد يكون سواه. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله إن هذه الخمسة أشياء مما لا يعلمها غيره تعالى على التفصيل والتحقيق " إن الله عليم " بتفصيل ذلك " خبير " به لا يخفي عليه شئ من ذلك. وسأل البلخي نفسه، فقال: إذا قلتم: إن من اعتقد الشئ على ما هو به تقليدا أو تخمينا أو تنجيما يكون عالما، فلو أن إنسانا أعتقد ان امرأة تلد ذكرا أو رجلا يموت في بلد بعينه أو يكسب في الغد كذا، فوافق ذلك اعتقاده، فيجب أن يكون عالما، ويبطل الاختصاص في الآية ؟! وأجاب: إن ذلك وإن كان جائزا، فإنه لا يقع لظاهر الآية. وهذا غير صحيح، لان من المعلوم ضرورة أن الانسان يخبر شيئا فيعتقده، فيكون على ما اعتقده من هذه الأشياء الخمسة. وإنما لا يكون علما، لأنه لا تسكن نفسه إلى ذلك، فأما المنع من وقوعه فمعلوم خلافه.1- مجاز القرآن 2 / 129.
2- مجاز القرآن 2 / 129.