الآيات 16-20
قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر " ولا تصعر " بغير ألف في التصعير. الباقون " تصاعر " بألف. وقرأ أهل المدينة " مثقال حبة " رفعا. الباقون نصبا من رفعه جعل (كان) بمعنى حدث، ووقع، ولم يجعل لها خبرا. ومن نصب فعلى أنه خبر (كان) والاسم مضمر فيها أي إن تك الحبة مثقال. وقرأ نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم " نعمه " على لفظ الجمع. الباقون " نعمة " على التوحيد. يقول الله تعالى مخبرا عن لقمان ووصيته لابنه، وأنه قال " يا بني أنها إن تك مثقال حبة من خردل " من خير أو شر (فتكن) عطف على الشرط فلذلك جزمه. وتقديره: إن تلك الحبة لو كانت في جوف صخرة، وهي الحجر العظيم أو تكون في السماوات أو الأرض " يأت بها الله " ويحاسب عليها ويجازي لأنه لا يخفى عليه شئ منها، ولا يتعذر عليه الاتيان بها أي موضع كانت، لأنه قادر لنفسه لا يعجزه شئ عالم لنفسه لا تخفى عليه خافية. وقوله " يأت بها الله " معناه إنه يجازي بها ويواقف عليها فكأنه أتى بها وإن كانت أفعال العباد لا يصح إعادتها، ولو صح اعادتها لما كانت مقدورة لله. وإنما أراد ما قلناه، وفي ذلك غاية التهديد والحث على الاخذ بالحزم. والهاء في قوله " انها " قيل: انها عماد وهو الضمير على شريطة التفسير. وقيل: (إنها) كناية عن الخطيئة أو الفعلة التي تقتضي الجزاء، وهي المضمرة في تلك وإنما أنث مثقال، لأنه مضاف إلى مؤنث وهي الحبة، كما قيل: ذهبت بعض أصابعه. وكما قيل: وتشرق بالقول الذي قد أذعته شرقت صدر القناة من الدم (1) والصخرة وإن كانت في الأرض أو في السماء، فذكر السماوات والأرض بعدها مبالغة كقوله " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق " (2) وقد قال بعض المفسرين: ان الصخرة خارجة عن السماوات والأرض، وهو أيضا جائز. وقرأ قتادة " فتكن في صخرة " بكسر الكاف مخففا من (وكن يكن) أي جعل الصخرة كالوكنة. وهو عش الطائر. ذكره ابن خالويه. وحكاه عن ابن مجاهد سماعا، واستحسنه. وقوله " ان الله لطيف خبير " قال قتادة: معناه - ها هنا - لطيف باستخراجها، خبير بمستقرها. واللطيف القادر الذي لا يحفو عن عمل شئ، لان من القادرين من يحفو عن عمل أشياء كثيرة كاخراج الجزء الذي لا يتجزأ وتأليفه إلى مثله، فهو فإن كان قادرا عليه، فهو ممتنع منه، لأنه يحفو عن عمل مثله. والخبير العالم وفيه مبالغة في الصفة، مشتق من الخبر. ولم يزل الله خبيرا عالما بوجوه ما يصح أن يخبر به، والمثقال مقدار يساوي غيره في الوزن، فمقدار الحبة مقدار حبة في الوزن. وقد صار بالعرف عبارة عن وزن الدينار، فإذا قيل: مثقال كافور أو عنبر، فمعناه مقدار الدينار بالوزن. ثم حكى ما قاله لقمان لابنه أيضا قال له " يا بني أقم الصلاة " أي دم عليها وأقم حدودها وشرائطها " وأمر بالمعروف " والمعروف هو الطاعات " وانه عن المنكر " وهي القبائح سواء كانت قبائح عقلية أو شرعية " واصبر على ما أصابك " من الناس في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من المشقة والأذى وفي ذلك دلالة على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان فيه بعض المشقة. ثم قال " إن ذلك " أي ما ذكره من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر " من عزم الأمور " من العقد الصحيح على فعل الحسن بدلا من القبيح، والعزم العقد على الامر لتوطين النفس على فعله وهي الإرادة المتقدمة للفعل بأكثر من وقت، لان التلون في الرأي يناقض العزم. قال الله تعالى " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل " (3). ثم حكى ما قال لقمان لابنه، فإنه قال له أيضا " ولا تصعر خدك للناس " ومعناه لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا - ذكره ابن عباس - واصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤسها حتى يلفت أعناقها فتشبه به الرجل المتكبر على الناس. وقال عمر بن جني الثعلبي واضافه المبرد إلى الفرزدق:
وكنا إذا الجبار صعر خده * أقمنا له من مثله فتقوما (4)
قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون تصعر وتصاعر بمعنى، كقولهم ضعف وضاعف، قال أبو الحسن (لا تصاعر) لغة أهل الحجاز و (لا تصعر) لغة بني تميم. والمعنى ولا تتكبر، ولا تعرض عنهم تكبرا " ولا تمش في الأرض مرحا " أي مشي مختال متكبر " ان الله لا يحب كل مختال فخور " فالاختيال مشية البطر، قال مجاهد: المختال المتكبر، والفخر ذكر المناقب للتطاول بها على السامع، يقال: فخر يفخر فخرا وفاخره مفاخرة وفخارا، وتفاخرا تفاخرا وافتخر افتخارا. ثم قال له " واقصد في مشيك " أي اجعل مشيك مشي قصد، لا تمشي مشي مختال ولا متكبر " واغضض من صوتك " أي لا ترفع صوتك متطاولا لأنه مذموم " ان انكر الأصوات لصوت الحمير " قال الفراء: معناه إن أشد الأصوات. وقال غيره: معناه أقبح الأصوات - في قول مجاهد - كما يقال: هذا وجه منكر. ثم نبههم على وجوه نعم الله على خلقه. فقال " ألم تروا ان الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض " أي ذلله لكم تتصرفون فيه بحسب ما تريدون من أنواع الحالات من الثمار والبهائم، وغير ذلك " وأسبغ عليكم نعمه " ظاهرة أي وسع عليكم نعمه، والسابغ الواسع الذي يفضل عن مقدار القوت. وقوله " ظاهرة وباطنة " أي من نعمه ما هو ظاهر لكم لا يمكنكم جحده: من خلقكم، واحيائكم واقداركم، وخلق الشهوة فيكم وضروب نعمه، ومنها ما هو باطن مستور لا يعرفها إلا من أمعن النظر فيها وقيل: النعم الباطنة مصالح الدين والدنيا، مما لا يشعرون به. وقيل: سخر لكم ما في السماوات من شمس وقمر ونجم وسحاب، وما في الأرض من دابة وشجر وثمار، وغير ذلك مما تنتفعون به في أقواتكم ومصالحكم. ثم قال تعالى ﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ﴾ اي يخاصم ولا علم له بما يقوله، ويجادل فيه ﴿ ولا هدى ﴾ أي ولا حجة على صحة ما يقوله ﴿ ولا كتاب منير ﴾ أي، ولا كتاب من عند الله منير أي ظاهر عليه نور وهدى.
1- قائله الأعشى، ديوانه 183، واللسان (شرق).
2- سورة 96 العلق آية 2.
3- سورة 46 الأحقاف آية 35.
4- مجاز القرآن 2 / 172.