الآيات 51-55

قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ، فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾

القراءة:

ست آيات مدني وخمس في ما عداه عد المدني " يقسم المجرمون " ولم يعده الباقون. قرأ ابن كثير ﴿ ولا تسمع ﴾ بفتح التاء ﴿ الصم ﴾ رفعا الباقون - بضم التاء - ﴿ الصم ﴾ نصبا. وهذا مثل ضربه الله للكفار، والمعنى كما إنك يا محمد لا تسمع الميت لتعذر استماعه فكذلك لا تسمع الكفار. والمعنى انه لا ينتفع بسماعه، لأنه لا يعمل به، فإذا كان كذلك فالمعنيان متقاربان، لان المعنى إنك لا تسمع الكافر ما في القرآن من حكمة وموعظة، كما لا تسمع الأصم المدبر عنك. وضم التاء ونصب الميم أحسن لتشاكل ما قبله من اسناد الفعل إليك أيها المخاطب وحكم المعطوف يجب أن يكون مشاكلا حكم المعطوف عليه. وقرأ عاصم وحمزة ﴿ من ضعف ﴾ بفتح الضاد في الثلاثة. الباقون بالضم فيهن، وهما لغتان. يقول الله سبحانه ﴿ ولئن أرسلنا ريحا ﴾ مؤذنة بالهلاك ﴿ فرأوه مصفرا ﴾ فالهاء يجوز أن يكون كناية عن السحاب، وتقديره فرأوا السحاب مصفرا لأنه إذا كان كذلك كان غير ممطر، ويحتمل أن يكون راجعا إلى الزرع، وتقديره، فرأوا الزرع مصفرا - والثاني قول الحسن - وجواب لئن في الشرط أغنى عنه جواب القسم، لان المعنى ليظلن كما أن (أرسلنا) بمعنى أن يرسل فجواب القسم قد ناب عن الامرين. وكان أحق بالحكم لتقدمه على الشرط ولو تقدم الشرط لكان الجواب له، كقولك: ان أرسلنا ريحا ظلوا والله يكفرون. و (الاصفرار) لون بين الحمرة والبياض، وهو من النبات الذي يصفر بالربح للجفاف ويحول عن حال الاخضرار، فيصير إلى الهلاك ويقنط صاحبه الجاهل بتدبير ربه في ما يأخذ به من الشدة بأمره تارة والرخاء أخرى ليصح التكليف بطريق الترغيب والترهيب، ومعنى (ظل يفعل) أي جعل يفعل في صدر النهار، وهو الوقت الذي فيه إلى ظل الشمس. و (أضحى يفعل) نظير ظل يفعل إلا أنه كثر حتى صار بمنزلة (جعل يفعل). ثم قال لنبيه " إنك " يا محمد " لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين " شبه الكفار في ترك تدبرهم لما يدعوهم الله النبي صلى الله عليه وآله تارة بالأموات وتارة بالصم، لأنهم لا ينتفعون بدعاء داع، لأنهم لا يسمعونه، وكذلك من يسمع ولا يصغى ولا يفكر فيه، ولا يتدبره فكأنه لم يسمعه. وقوله " إذا ولوا مدبرين " معناه إذا أعرضوا عن أدلتنا وعن الحق ذاهبين إلى الضلال غير طالبين لسبيل الرشاد. ولذلك لزمهم الذم وصفة النقص. وقوله " وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم " معناه ليس في هؤلاء حيلة أن يقبلوا الهداية فصار العمي بالضلال صنفين:

أحدهما: يطلب الهداية فهو يجدها عندك.

والآخر: لا يطلب الهداية، فليس فيه حيلة. ثم قال ﴿ إن ﴾ يعني ليس ﴿ تسمع إلا من يصدق بآياتنا وأدلتنا ﴾ لأنهم المنتفعون بدعائك واسماعك ﴿ فهم مسلمون ﴾ لك ما تدعوهم إليه. ثم قال ﴿ الله الذي خلقكم من ضعف ﴾ وفيه لغتان - الضم، والفتح - مثل الفقر والفقر، والكره والكره، والجهد والجهد، والمعنى انه خلقهم ضعفاء لأنهم كانوا نطفا، فحولهم إلى أن صاروا أحياء أطفالا لا قدرة لهم ﴿ ثم جعل ﴾ لهم ﴿ من بعد ضعف ﴾ أي من بعد هذا الضعف ﴿ قوة ﴾ إذا شبوا وترعرعوا وكملوا ﴿ ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة ﴾ في حال الشيخوخة والشيب ﴿ يخلق ما يشاء ﴾ كيف يشاء ﴿ وهو العليم ﴾ بما فيه مصالح خلقه قادر على فعله فهو يفعل بحسب ما يعلمه من مصالحهم. ثم اخبر تعالى عن حال الكفار أنهم ﴿ يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ﴾ انهم ﴿ ما لبثوا غير ساعة ﴾ وقيل: في قسمهم بذلك مع أن معارفهم ضرورية قولان:

أحدهما: قال أبو بكر بن الاخشاد: ذلك يقع منهم قبل اكمال عقولهم. ويجوز قبل الالجاء ان يقع منهم قبيح.

الثاني: قال الجبائي: ان المراد أنه منذ ما انقطع عنا عذاب القبر ﴿ كذلك كانوا يؤفكون ﴾ أي يكذبون لأنه اخبار عن غالب الظن بما لا يعلمون قال: ولا يجوز أن يقع منهم القبيح في الآخرة، لان معارفهم ضرورة. وقيل: ﴿ كذلك كانوا يؤفكون ﴾ في دار الدنيا ويجحدون البعث والنشور مثل ما حلفوا أنهم لم يلبثوا إلا ساعة، قال الفراء: وتقديره كما كذبوا في الدنيا بالبعث كذلك يكذبون بقولهم ما لبثنا غير ساعة. ومن استدل بذلك على نفي عذاب القبر فقد أبطل، لان المراد أنهم ما لبثوا بعد انقطاع عذاب القبر إلا ساعة.