الآيات 41-45

قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ، مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير - في رواية ابن مجاهد - عن قنبل وروح " لنذيقهم " بالنون. الباقون بالياء. فمن قرأ بالنون فعلى وجه اخبار الله عن نفسه أنه الذي يذيقهم. ومن قرأ بالياء فالمعنى ليذيقهم الله بعض الذي عملوا. يقول الله تعالى " ظهر الفساد في البر والبحر " قيل: فساد البر هو ما يحصل فيها من المخاوف المانعة من سلوكه، ويكون بخذلان الله عز وجل لأهل العقاب به، وفساد البحر اضطراب أمره حتى لا يكون متصرفا فيه، وكل ذلك ليرتدعوا عن معاصيه. وقال قتادة: المعنى ظهر الفساد في أهل البر والبحر فأهل البر أهل البادية وأهل البحر أهل القرى الذين على الأنهار العظيمة ويكون قوله " بما كسبت أيدي الناس " معناه يخلي الله بينهم وبين المعاصي جزاء على ما سبق منهم من المعاصي. وقال مجاهد: البر ظهر الأرض والبحر هو البحر المعروف، لأنه يؤخذ فيه كل سفينة غصبا. وقيل: البر الأرض القفر والبحر المجرى الواسع للماء عذبا كان أو ملحا، وسمي البر برا، لأنه يبر بصلاح المقام فيه خلاف البحر، ومنه البر لأنه يبر بصلاحه في الغذاء أتم الصلاح. وقيل: الفساد المعاصي ودليله قوله تعال " والله لا يحب الفساد " (1) والتقدير. ظهر عقاب الفساد في البر والبحر، والظهور خروج الشئ إلى حيث يقع عليه الاحساس والعلم به بمنزلة الادراك له. وقد يظهر الشئ بخروجه عن وعاء أو وجوده عن عدم أو ظهوره بدليل. وقيل: بالعدل ينبت الله الزرع ويدر الضرع، وبالظلم يكون القحط وضيق الرزق. وقوله " بما كسبت أيدي الناس " أي جزاء على ما فعله الناس. والكسب فعل الشئ لاجتلاب نفع إلى نفس الفاعل أو دفع ضرر عنه، فالقادر لنفسه يقدر على مثله في الحالتين لاجتلاب نفع إلى غيره أو دفع ضرر عنه، غير أنه لا يوصف بهذه الصفة وإن قدر على مثله. وقوله " ليذيقهم بعض الذي عملوا " معناه ليصيبهم الله بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوها من المعاصي " لعلهم يرجعون " أي ليرجعوا عنها في المستقبل، وتقديره فعل الله تعالى القحط والشدائد والجدب وقلة الثمار وهلاك النفوس عقوبة على معاصيهم ليذيقهم بذلك عقاب بعض ما عملوا من المعاصي ليرجعوا عنها في المستقبل، ليذيقهم عقابه غير أنه أجري على بعض العمل لأنهم بذواقهم جزاءه كأنهم ذاقوه. وهذا من الحذف الحسن، لأنه حذف المسبب وإقامة السبب الذي أدى إليه مقامه. ثم بين تعالى انه فعل بهم هذا ليرجعوا عن معاصيه إلى طاعته. ثم خاطب تعالى نبيه صلى الله عليه وآله فقال له " قل " لهم يا محمد " سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين " أي فكروا فيمن تقدم من الأمم التي أشركت بالله أكثرهم، والمؤمنون كانوا قليلين فيهم كيف أهلكهم الله ودمر عليهم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " فأقم وجهك للدين القيم " ومعناه استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنة أي لا يعدل عنه يمينا ولا شمالا، فإنك متى فعلت ذلك أداك إلى الجنة، وهو مثل قوله " ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم " (2) مجانس فيه للبلاغة ومنه قوله " يوما تتقلب فيه القلوب والابصار " ومنه " يمحق الله الربوا ويربي الصدقات ". " من قبل أن يأتي يوم لامر دله من الله يومئذ يصدعون " أي استقيموا على الطريق المستقيم قبل يوم القيامة الذي تتفرقون فيه فرقتين، فريق في الجنة وفريق في السعير - ذكره قتادة - وقال الحسن: الدين القيم الطاعة لله. ثم قال " من كفر " بالله وجحد نعمه " فعليه كفره " أي فعليه جزاء كفره لا يعاقب أحد بذنب غيره، كما قال " ولا ترز وازرة وزر أخرى " (3) " ومن عمل صالحا " يعني الايمان بالله وأفعال الطاعات " فلأنفسهم يمهدون " والتمهيد والتمكين والتوطيد نظائر أي ثواب ذلك واصل إليهم وتتمهد أحوالهم الحسنة عند الله. وقوله " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله " اخبار منه تعالى أنه الذي يجزي الذين يطيعون الله تعالى ويجتنبون معاصيه ثواب الجنة من فضله على خلقه " إنه لا يحب الكافرين " أي لا يريد منافعهم ولا ثوابهم، وإنما يريد عقابهم جزاء على كفرهم.


1- سورة 2 البقرة آية 205.

2- سورة 9 التوبة آية 128.

3- سورة 6 الانعام آية 164 وسورة 17 الاسرى آية 15 وسورة 35 فاطر آية 18 وسورة 39 الزمر آية 7.