الآيات 56-60

قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾

القراءة:

قرأ يحيى والعليمي " ثم الينا يرجعون " بالياء على الخبر عن الغائب. الباقون بالتاء على الخطاب. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما " لنثوينهم " بالثاء من أثويته منزلا أي جعلت له منزل مقام، والثواء المقام، الباقون بالباء من قولهم: بوأته منزلا، كما قال تعالى " مبوء صدق " في قوله " ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوء صدق " (1) و " إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " (2) ويحتمل أن تكون اللام زائدة، كقوله ﴿ ردف لكم بعض ﴾ (3) ويحتمل أن يكون المراد ﴿ بوأنا ﴾ لدعاء إبراهيم ﴿ مكان البيت ﴾ ويقول القائل: اللهم بوئنا مبوء صدق أي أنزلنا منزل صدق والتبوء اتخاذ منزل يرجع إليه من يأوى إليه، وأصله الرجوع من قوله ﴿ باءوا بغضب من الله ﴾ (4) أي رجعوا، ومنه قول الحارث ابن عباد: (بوئوا بشسع كليب) وقيل: معناه لننزلنهم من الجنة علالي. يقول الله تعالى لخلقه الذين صدقوا بوحدانيته وأقروا بنبوة نبيه ﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ﴾ لبعد أقطارها، فاهربوا من أرض من منعكم فيها من الايمان واخلاص عبادتي فيها. وقيل: نزلت في مؤمني مكة أمروا بالهجرة عنها، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وابن زيد. وقيل ﴿ أرضي واسعة ﴾ بما أخرج فيها من الرزق لكم - ذكره مطرف بن عبد الله بن السخير العامري. وقال الجبائي: معناه إن ارض الجنة واسعة، وأكثر أهل التأويل على أن المراد به ارض الدنيا. وقوله ﴿ فإياي فاعبدون ﴾ أي اعبدوني خالصا، ولا تطيعوا أحدا من خلقي في معصيتي. وقيل: دخول الفاء في الكلام للجزاء وتقديره إن ضاق موضع بكم فإياي فاعبدون لان أرضي واسعة. و (إياي) منصوب بمضمر يفسره ما بعده. ثم اخبر تعالى ان ﴿ كل نفس ﴾ أحياها الله بحياة خلقها فيها ﴿ ذائقة الموت ﴾ والذائق الواجد للجسم بحاسة إدراك الطعم ﴿ ثم الينا ترجعون ﴾ أي تردون إلينا فنجازيكم على قدر استحقاقكم من الثواب والعقاب. وفي ذلك غاية التهديد والزجر. ثم قال ﴿ والذين آمنوا ﴾ أي صدقوا بوحدانية الله، وأقروا بنبوة نبيه صلى الله عليه وآله ﴿ وعملوا ﴾ مع ذلك الاعمال ﴿ الصالحات لنبوأنهم ﴾ أي لننزلنهم ﴿ من الجنة ﴾ التي وعدها الله المتقين ﴿ غرفا ﴾ أي مواضع عاليات ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ لان الغرف تعلو عليها. وقيل: تجري من تحت أشجارها المياه. وقيل: انهار الجنة في أخاديد تحت الأرض ﴿ خالدين فيها ﴾ أي يبقون فيها ببقاء الله. ثم اخبر تعالى ان ذلك ﴿ نعم أجر العاملين ﴾ أي نعم الثواب والاجر للعاملين بطاعة الله ﴿ الذين صبروا ﴾ على الأذى في الله، وصبروا على مشاق الطاعات، ووكلوا أمورهم إلى الله وتوكلوا عليه في ارزاقهم وجهاد أعدائهم ومهمات أمورهم. ثم قال تعالى " وكأين من دابة " معنى كاين (كم) وقد فسرناه في ما مضى (5) " لا تحمل رزقها " أي لا تدخره لغد - في قول علي بن الأقمر - وقال الحسن " لا تحمل رزقها " للادخار. وقيل: ان الحيوان أجمع من البهائم والطير ونحوهما لا تدخر القوت لغدها - إلا ابن آدم والنملة والفارة - بل تأكل منه كفايتها فقط. وقال مجاهد: معناه " لا تحمل رزقها " لا تطيق حمل رزقها لضعفها " الله يرزقها " يعني تلك الدابة الضعيفة التي لا تقدر على حمل رزقها " وإياكم " أي ويرزقكم أيضا " وهو السميع العليم " يعني " السميع " لما يقول القائل في فراق وطنه " العليم " بما في نفسه، لأنه عالم بجميع الأشياء وقيل: الآية نزلت في أهل مكة: المؤمنين منهم، فإنهم قالوا لرسول الله: ليس لنا بالمدينة أموال، ولا منازل، فمن أين المعاش، فأنزل الله الآية.


1- سورة 10 يونس آية 93.

2- سورة 22 الحج آية 26.

3- سورة 27 النمل آية 72.

4- سورة 2 البقرة آية 61 وسورة 3 آل عمران آية 112.

5- انظر 3 / 10 و 6 / 202.