الآيات 21-25

قوله تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ، وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو، والكسائي " مودة بينكم " بالرفع والإضافة. وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وابن عامر " مودة بينكم " منونا منصوبا. وروى الأعشى عن أبي بكر برفع " مودة " و " بينكم " نصب، وقرأ حفص عن عاصم وحمزة " مودة بينكم " نصبا غير منون مضاف. من رفع يحتمل وجهين:

أحدهما: ان يجعل " إنما " كلمتين يجعل (ما) بمعنى الذي، وهو اسم (ان) و (مودة) خبره، ومفعول اتخذتم (هاء) محذوفة، وتقديره: إن الذي اتخذتموه مودة بينكم، كما قال الشاعر:

ذريني إنما خطائي وصوا * بي علي وإنما أهلكت مالي

يريد ان الذي أهلكته مالي.

الثاني: ان يرفعها بالابتداء، " وفى الحياة الدنيا " خبرها. ومن نصب جعل (المودة) مفعول (اتخذتم). ومن أضاف جعل البين الوصل. ومن لم ينون ولم يضف جعل (البين) ظرفا. وهو الفراق أيضا. يقال: بينهما بين بعيد، وبون بعيد، وجلس زيد بيننا، وبينا بالادغام، ذكره ابن زيد عن ابن حاتم عنا الأصمعي، يقال: بان زيد عمرا: إذا فارقه يبونه بونا قال الشاعر:

كأن عيني وقد بانوني * غربا نصوح غير محنوني

وقرأ أبي " اثما مودة بينكم ". اخبر الله تعالى انه " يعذب من يشاء " من عباده إذا استحقوا العقاب ﴿ ويرحم من يشاء ﴾ منهم فيعفو عنهم بالتوبة وغير التوبة ﴿ واليه تقلبون ﴾ معاشر الخلق أي إليه تحشرون وترجعون يوم القيامة. والقلب الرجوع والرد، فتقلبون أي تردون إلى حال الحياة في الآخرة بحيث لا يملك الضر والنفع فيه إلا الله. والقلب نفي حال بحال يخالفها. ثم قال: ولستم بمعجزين في الأرض أي بفائتين، فالمعجز الفائت بما يعجز القادر عن لحاقه. ولهذا فسروا ﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ أي بفائتين، والمعنى لا تغتروا بطول الامهال ﴿ في الأرض ولا في السماء ﴾ اي لستم تفوتونه في الأرض، ولا في السماء لو كنتم فيها، فإنه قادر عليكم حيث كنتم. وقيل في ذلك قولان:

أحدهما: لا يفوتونه هربا في الأرض، ولا في السماء.

الثاني: ولا من في السماء بمعجزين، كما قال حسان:

أمن يهجوا رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء (1)

وتقديره ومن يمدحه وينصره سواء أم لا يتساوون ؟! وقوله ﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ أي وليس لكم ولي ولا ناصر من دون الله يدفع عنكم عقاب الله إذا أراد بكم، فالولي هو الذي يتولى المعونة بنفسه، والنصير قد يدفع المكروه عن غيره تارة بنفسه وتارة بان يأمر بذلك. ثم قال تعالى ﴿ والذين كفروا بآيات الله ﴾ اي جحدوا أدلة الله ولقاء ثوابه وعقابه يوم القيامة ﴿ أولئك يئسوا من رحمتي ﴾ اخبار عن أياسهم من رحمة الله، لعلمهم انها لا تقع بهم ذلك اليوم ﴿ وأولئك لهم عذاب اليم ﴾ اي مؤلم. وفى ذلك دلالة على أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا يجوز ان ييأس من رحمة الله. ثم قال ﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه ﴾ وفى ذلك دلالة على أن جميع ما تقدم حكاية ما قال إبراهيم لقومه، وانهم لما عجزوا عن جوابه بحجة عدلوا إلى أن قالوا اقتلوه أو حرقوه وفى الكلام حذف، وتقديره: إنهم أوقدوا نارا وطرحوه فيها ﴿ فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآية ﴾ واضحة وحجة بينة ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ بصحة ما أخبرناك به من توحيد الله واخلاص عبادته. ثم عاد إلى حكاية قول إبراهيم وانه قال لهم ﴿ إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا. ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ﴾ قال قتادة: كل خلة تنقلب يوم القيامة عداوة إلا خلة المتقين كما قال ﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين ﴾ (2) ومعنى الآية ان إبراهيم قال لقومه: إنما اتخذتم هذه الأوثان آلهة من دون الله لتتوادوا بها في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة يتبرؤ بعضكم من بعض ويلعن بعضكم بعضا، ومستقركم النار، وما لكم من ينصركم بدفع عذاب الله عنكم. ثم قال لهم " ومأواكم النار " أي مستقركم و " ما لكم من ناصرين " يدفعون بالقهر والغلبة. وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه في كتاب التفسير أن جميع الدواب والهوام كانت تطفي عن إبراهيم النار إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ النار، فامر بقتلها. وروى أيضا انه لم ينتفع أحد يوم طرح إبراهيم في النار بالنار في جميع الدنيا.


1- مر تخريجه في 1 / 410.

2- سورة 43 الزخرف آية 67.