الآيات 56-60

قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ، وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾

القراءة:

قرأ أهل المدينة ورويس " يجبي " بالياء. الباقون بالتاء. وقرأ أبو عمرو إلا السوسي " يعقلون " بالياء. يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله " إنك " يا محمد " لا تهدي من أحببت " هدايته. وقيل: معناه من أحببته لقرابته. والمراد بالهداية - ههنا - اللطف الذي يحتاج إليه ليختار عنده الايمان، وذلك لا يقدر عليه غير الله لأنه إما أن يكون من فعله خاصة أو باعلامه، لأنه لا يعلم، ما يصلح العبد في دينه إلا الله تعالى، فإذا دبر الأمور على ما فيه صلاحه كان لاطفا له، وهذا التدبير لا يتأتى من أحد سوى الله تعالى، فلذلك نفى الله ذلك عن نبيه، ويؤيد ما قلناه قوله " وهو أعلم بالمهتدين " ومعناه هو أعلم بمن يهتدي باللطف ممن لا يهتدي، فهو تعالى يدبر الأمور على ما يعلم من صلاح العباد، على التفصيل من غير تعليم. وهذه الآية نزلت لان النبي صلى الله عليه وآله كان يحرص على إيمان قومه ويؤثر أن يؤمنوا كلهم، ويجب أن ينقادوا له ويقروا بنبوته، وخاصة أقاربه. فقال الله تعالى له: إنك لا تقدر على ذلك، وليس في مقدورك ما تلطف بهم في الايمان ذلك بل في مقدور الله يفعله بمن يشاء إذا علم أنهم يهتدون عند شئ فعله بهم فلا ينفع حرصك على ذلك. وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي طالب. وعن أبي عبد الله وأبي جعفر إن أبا طالب كان مسلما وعليه اجماع الامامية، لا يختلفون فيه، ولهم على ذلك أدلة قاطعة موجبة للعلم ليس هذا موضع ذكرها. ثم قال تعالى حاكيا عن الكفار انهم قالوا: إن نتبع محمدا وما يدعونا إليه ونقول انه هدى وموصل إلى الحق " نتخطف من ارضنا " وقيل: انها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف، فإنه قال للنبي صلى الله عليه وآله انا لنعلم أن قولك حق ولكن يمنعنا أن نتبع الذي معك، ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا يعني مكة، ولا طاقة لنا بالعرب فقال الله تعالى ﴿ أو لم نمكن لهم حرما آمنا ﴾ فالتخطف اخذ الشئ على الاستلاب من كل وجه: تخطف تخطفا واختطف اختطافا وخطفه ويخطفه خطفا قال امرؤ القيس:

نخطف خزان الشربة بالضحى * وقد حجرت منها ثعالب أورال (1)

فقال الله تعالى لهم " أو لم نمكن لهم حرما آمنا " وقيل في وجه جعله الحرم آمنا وجهان:

أحدهما: بما طبع النفوس عليه من السكون إليه بترك النفور مما ينفر عنه في غيره كالغزال مع الكلب، والحمام مع الناس وغيرهم.

والوجه الآخر: بما حكم به على العباد وأمرهم أن يؤمنوا من يدخله ويلوذ به، ولا يتعرض له، وفائدة الآية إنا جعلنا الحرم آمنا لحرمة البيت مع أنهم كفار يعبدون الأصنام حتى أمنوا على نفوسهم وأموالهم، فلو آمنوا لكان أحرى بأن يؤمنهم الله، وأولى بأن يمكنهم من مراداتهم. وقوله " يجبى إليه ثمرات كل شئ " أي يجلب إلى هذا الذي جعلناه حرما ثمرات كل شئ. فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الثمرات. ومن قرأ بالياء، فلان التأنيث غير حقيقي. وقوله " رزقا من لدنا " نصب على المصدر، وتقديره رزقا رزقناه من عندنا " ولكن أكثرهم لا يعلمون " ما أنعمنا به عليهم. ثم قال " وكم أهلكنا من قرية " اي من أهل قرية استحقوا العقاب " بطرت معيشتها " قال الفراء: معناه أبطرتها معيشتها، كقولهم أبطرك مالك، فذكرت المعيشة، لان الفعل كان لها في الأصل فحول إلى ما أضيفت إليه فنصبت كما قال " فان طبن لكم عن شئ منه نفسا " (2) فالبطر والأشر واحد، وهو شق العصا بتضييع حق نعم الله، والطغيان فيها بجحدها، والكفر بها. ثم اخبر تعالى فقال " فتلك مساكنهم " يعني مساكن الذين أهلكهم الله " لم تسكن من بعدهم إلا قليلا " من الزمان. ثم هلكوا وورث الله تعالى مساكنهم لأنه لم يبق منهم أحد. ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وآله فقال " وما كان ربك " يا محمد " مهلك القرى، حتى يبعث في أمها رسولا " وقيل في معنى " أمها " قولان:

أحدهما: في أم القرى، وهي مكة.

والآخر: في معظم القرى في سائر الدنيا " يتلو عليهم آياتنا " اي يقرأ عليهم حجج الله وبيناته " وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون " لنفوسهم بارتكاب المعاصي، وكفران نعمه. ثم خاطب خلقه فقال " وما أوتيتم من شئ " اي ما أعطيتم من شئ " فمتاع الحياة الدنيا " اي هو شئ تنتفعون به في الحياة الدنيا، وتتزينون فيها ﴿ وما عند الله ﴾ من الثواب ونعيم الجنة ﴿ خير وأبقى ﴾ من هذه النعم، لأنها باقية، وهذه فانية ﴿ أفلا تعقلون ﴾ ذلك وتتفكرون فيه. وقوله ﴿ ثمرات كل شئ ﴾ قيل: ان (كل) ههنا البعض، لأنا نعلم أنه ليس يجبى إلى مكة كثير من الثمرات. وقال قوم: ظاهر ذلك يقتضى انه يجبى إليه جميع الثمرات إما رطبا أو يابسا، ولا مانع يمنع منه. ومن قرأ ﴿ تعقلون ﴾ بالتاء فلقوله ﴿ وما أوتيتم ﴾ ومن قرأ بالياء فتقديره ﴿ أفلا يعقلون ﴾ يا محمد.


1- شرح ديوانه 166 (حسن السندوبى).

2- سورة 4 النساء آية 3.