الآيات 41-45
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ، وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾
اخبر الله تعالى انه جعل فرعون وقومه ﴿ أئمة يدعون إلى النار ﴾ وقيل في معناه قولان:
أحدهما: انا عرفنا الناس انهم كانوا كذلك، كما يقال: جعله رجل شر بتعريفه حاله.
الثاني: انا حكمنا عليهم بذلك، كما قال ﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ﴾ (1) وكما قال ﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾ (2) وإنما قال ذلك، وأراد انهم حكموا بذلك، وسموه. والجعل على أربعة أقسام:
أحدها: بمعنى الاحداث، كقوله ﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين ﴾ (3) وقوله ﴿ وجعلنا السماء سقفا محفوظا ﴾ (4)
الثاني: بمعنى قلبه من حال إلى حال كجعل النطفة علقة إلى أن تصير انسانا
الثالث: بمعنى الحكم انه على صفة، كما قال إنه جعل رؤساء الضلالة يدعون إلى النار أي حكم بذلك.
الرابع: بمعنى اعتقد انه على حال كقولهم جعل فلان فلانا راكبا إذا اعتقد فيه ذلك. والامام هو المقدح للاتباع يقتدون به، فرؤساء الضلالة قدموا في المنزلة لاتباعهم فيما يدعون إليه من المغالبة. وإنما دعوهم إلى فعل ما يؤدي بهم إلى النار، فكان ذلك كالدعاء إلى النار. والداعي هو الطالب من غيره ان يفعل إما بالقول أو ما يقوم مقامه، فداعي العقل بالاظهار الذي يقوم مقام القول. وكذلك ظهور الإرادة يدعو إلى المراد. وقوله ﴿ ويوم القيامة لا ينصرون ﴾ معناه: إنهم كانوا يتناصرون في الدنيا، وهم لا ينصرون في الآخرة بنصر بعضهم لبعض، ولا غيره ولا أحد ينصرهم. وقوله ﴿ واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ﴾ معناه ألحقنا بهم في هذه الدنيا لعنة بأن لعناهم وأبعدناهم من رحمتنا. وقال أبو عبيدة معناه ألزمناهم بأن أمرنا بلعنهم، قوما بعد قوم ﴿ ويوم القيامة هم من المقبوحين ﴾ مع اللعنة. والاتباع إلحاق الثاني بالأول، فهؤلاء الدعاة إلى الضلالة ألحقوا اللعنة تدور معهم حيث ما كانوا، وفى ذلك أعظم الزجر عن القبيح. وقيل: المقبوح المشوه بخلقته لقبيح عمله، ويقال: قبحه الله يقبحه قبحا، فهو مقبوح إذا جعله قبيحا وقال أبو عبيدة: معنى (المقبوحين) المهلكين. ثم اخبر تعالى انه أعطى موسى الكتاب يعني التوراة من بعد ان أهلك القرون الأولى من قوم فرعون وغيرهم، وانه فعل ذلك " بصائر للناس " وهي جمع بصيرة يتبصرون بها ويعتبرون بها وجعل ذلك هدى يعني أدلة وبيانا ورحمة اي ونعمة عليهم لكي يتذكروا ويتفكروا فيعتبروا به. وقوله " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين " معناه ما كنت بجانب الغربي أي الجبل - في قول قتادة - حين قضينا إليه الامر أي فصلنا له الامر بما ألزمناه وقومه وعهدنا إليه فيهم، فلم تشهد أنت ذلك " ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين " أي مقيما فالثاوي المقيم قال الأعشى:
أثوى وقصر ليلة ليزودا * ومضى وأخلف من قتيلة وموعدا (5)
" تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين " والمعنى انك لم تشهد احساننا إلى إلى عبادنا بارسال الرسل ونصب الآيات وانزال الكتب بالبيان والهدى وما فيه الشفاء للعمى كأنه يقول لم تراي شئ كان هناك، تفخيما لشأنه مع إنك إنما تخبر به عنا، ولولا ما أعلمناك منه لم تهتد له.
1- سورة 5 المائدة آية 106.
2- سورة 6 الانعام آية 100.
3- سورة 17 الاسرى آية 12.
4- سورة 21 الأنبياء آية 32.
5- ديوانه * (دار بيروت) * 54.