الآيات 36-40

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ، وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إلى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير " قال موسى " بلا واو، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة. الباقون - بالواو - وكذلك هو في المصاحف. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما " من يكون " بالياء. الباقون بالتاء من قرأ بالياء فلان تأنيث العاقبة ليس بحقيقي. ومن قرأ بالتاء، فلان لفظه مؤنث. وتقدير الكلام إن موسى مضى إلى فرعون " فلما جاءهم موسى بآياتنا " أي حججنا " بينات " أي ظاهرات " قالوا " يعني فرعون وقومه ليس " هذا " الذي يدعيه " إلا سحر مفترى " أي مختلق مفتعل. والفرق بين (لو) و (لما) أن (لو) لتقدير وقوع الثاني بالأول، و (لما) للايجاب في وقوع الثاني بالأول. وقولك: ولو جاءهم موسى بآياتنا قالوا، ليس فيه دليل انهم قالوا وفي (لما) دليل على أنهم قالوا عقيب مجئ الآيات. وقوله ﴿ سحر مفترى ﴾ اي سحر مختلق لم يبن على أصل صحيح، لأنه حيلة موهم خلاف الحقيقة، فوصفوا الآيات بالسحر والاختلاق، على هذا المعنى جهلا منهم وذهابا عن الصواب. وقوله ﴿ ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ﴾ أي لم نسمع ما يدعيه ويدعو إليه في آبائنا الذين كانوا قبلنا، وإنما قالوا ﴿ ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ﴾ مع شهرة قصة قوم نوح وصالح وغيرهم من النبيين الذين دعوا إلى توحيد الله واخلاص عبادته لاحد أمرين:

أحدهما: للفترة التي دخلت بين الوقتين وطول الزمان جحدوا أن تقوم به حجته.

والآخر: إن آباءهم ما صدقوا بشئ من ذلك، ولا دانوا به، ووجه الشبهة في أنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم الأولين أنهم الكثير الذين لو كان حقا لأدركوه، لأنه لا يجوز أن يدرك الحق الأنقص في العقل والرأي، ولا يدركه الأفضل منهما، وهذا غلط، لان ما طريقه الاستدلال قد يصيبه من سلك طريقه ولا يصيبه من لم يسلك طريقه. ثم حكى ما قال موسى بأنه قال ﴿ ربي اعلم بمن جاء بالهدى ﴾ أي بالدين الواضح والحق المبين من عنده، ووجه الاحتجاج بقوله ﴿ ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ﴾ أنه عالم بما يدعو إلى الهدى مما يدعو إلى الضلال، فلا يمكن من مثل ما أتيت به من يدعو إلى الضلال، لأنه عالم بما في ذلك من فساد العباد ثم بين هذا بقوله ﴿ انه لا يفلح الظالمون ﴾ وان عاقبة الصلاح لأهل الحق والانصاف، وهو كما تقول على طريق المظاهرة بحمل الخطاب: الله أعلم بالمحق منا من المبطل وحجتي ظاهرة، فاكسرها ان قدرت على ذلك ﴿ ومن تكون له عاقبة الدار ﴾ يعني الجنة والثواب في الآخرة ﴿ انه لا يفلح ﴾ أي لا يفوز بالخير من ظلم نفسه وعصى ربه وكفر نعمه. ثم حكى تعالى ما قال فرعون عند سماع كلام موسى لقومه فإنه قال لهم ﴿ يا أيها الملاء ما علمت لكم من إله غيري ﴾ فلا تصغوا إلى قوله، حين أعياه الجواب وعجز عن محاجته. ثم قال لهامان ﴿ أوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا ﴾ قال فالصرح البناء العالي كالقصر، ومنه التصريح شدة ظهور المعنى قال الشاعر:

بهن نعام بناها الرجال * تحسب أعلامهن الصروحا (1)

جمع صرح وهي القصور، وقال قتادة: أول من طبخ الآجر وبنى به فرعون ويقال: الآجر بالتخفيف، والتثقيل والآجور ثلاث لغات. وقوله ﴿ لعلي اطلع إلى اله موسى ﴾ فالاطلاع الظهور على الشئ من عل، وهو الاشراف عليه. وقوله ﴿ واني لأظنه من الكاذبين ﴾ حكاية ما قال فرعون فإنه قال: أظن موسى من جملة الذين يكذبون، ثم اخبر تعالى ان فرعون استكبر، وكذلك جنوده، واستكبروا ﴿ في الأرض بغير الحق، وظنوا انهم الينا لا يرجعون ﴾ إلى الله وإلى ثوابه وعقابه. وقوله ﴿ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ﴾ اخبار منه تعالى انه اخذ فرعون وجنوده أي جمعهم وطرحهم في البحر، وغرقهم. والنبذ الالقاء، قال أبو الأسود الدؤلي:

نظرت إلى عنوانه فنبذته * كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا (2)

وقال قتادة: البحر الذي غرق فيه فرعون يقال له: اسناد، على مسيرة يوم من مصر.


1- تفسير القرطبي 13 / 209 والطبري 20 / 41.

2- مر تخريجه في 1 / 367.