الآيات 31-35

قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ، قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾

القراءة:

قرأ ﴿ من الرهب ﴾ بفتح الراء والهاء - ابن كثير ونافع وأبو جعفر وأبو عمرو. الباقون - بضم الراء وسكون الهاء - إلا حفصا، فإنه قرأ - بفتح الراء وسكون الهاء - وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿ فذانك ﴾ مشددة النون. الباقون بالتخفيف. وقرأ نافع ﴿ ردا ﴾ بفتح الدال من غير همز منونا. وقرأه أبو جعفر بألف بعد الدال من غير همز وغير تنوين. الباقون بسكون الدال وبعدها همزة مفتوحة منونة. وقرأ عاصم وحمزة ﴿ يصدقني ﴾ بضم القاف. الباقون بالجزم. الرهب والرهب لغتان مثل النهر والنهر، والسمع والسمع. وقيل في تشديد ﴿ ذانك ﴾ ثلاثة أقوال:

أحدها: للتوكيد.

الثاني: للفرق بين النون التي تسقط للإضافة. وبين هذه النون.

الثالث: للفرق بين بنية الاسم المتمكن وغير المتمكن. وروي عن ابن كثير انه قرأ ﴿ فذانيك ﴾ قال أبو علي: وجه ذلك أنه أبدل من احدى النونين ياء، كما قالوا: تظنيت وتظننت. ومن جزم ﴿ يصدقني ﴾ جعله جوابا للامر وفيه معنى الشرط. وتقديره: إن أرسلته صدقني ومن رفع جعله صفة للنكرة. وتقديره ردءا مصدقا لي. وقال مقاتل: الرهب الكم، ويقال وضعت الشئ في رهبي اي في كمي، ذكر الشعبي انه سمع ذلك من العرب. ومن شدد ﴿ ذانك ﴾ جعله تثنية (ذلك) ومن خفف جعله تثنية (ذاك). اخبر الله تعالى انه لما قال لموسى ﴿ اني انا الله رب العالمين ﴾ أمره أيضا ان يلقي عصاه، وانه ألقاها أي طرحها واخرجها من يده إلى الأرض فانقلبت بإذن الله ثعبانا عظيما ﴿ تهتز ﴾ بإذن الله ﴿ كأنها جان ﴾ في سرعة حركته، وشدة اهتزازه، فعلم موسى عند ذلك ان الذي سمعه من الكلام صادر من الله، وان الله هو المكلم له دون غيره، لان ذلك إنما يعلمه بضرب من الاستدلال. وقوله ﴿ ولى مدبرا، ولم يعقب ﴾ اي لم يرجع، اي خاف بطبع البشرية وتأخر عنها ولم يقف، فقال الله تعالى له ﴿ يا موسى اقبل ولا تخف انك من الآمنين ﴾ من ضررها. والعصا عود من خشب كالعمود، وفي انقلابه حية دليل على أن الجوهر من جنس واحد، لأنه لا حال ابعد إلى الحيوان من حال الخشب. وما جرى مجراه من الجماد، وذلك يقتضي صحة قلب الأبيض إلى حال الأسود، والاهتزاز شدة الاضطراب في الحركة، والحيوان له حركة تدل عليه إذا رأي عليها لا يشك في أنه حيوان بها. وهي التصرف بالنفس من غير ريح، ولا سبب يولد التصرف مع كونه على البنية الحيوانية. وقيل: ان الله امره ان يدخل يده في فيها، ففعل فعادت عصا كما كانت. ثم امره الله ان يسلك يده في جيبه، أي بأن يدخلها فيه، وكانت سمرة شديدة السمرة فلما أخرجها خرجت بيضاء نقية ﴿ من غير سوء ﴾ أي من غير برص. وقوله ﴿ واضمم إليك جناحك ﴾ قال ابن عباس ومجاهد: يعني يدك ﴿ من الرهب ﴾ يعني من الرعب، والفرق الذي لحقه لأجل الحية - في قول مجاهد، وقتادة - وقال قوم: ان معناه امر له بالعزم على ما أريد له مما امر به، وحثه على الجد فيه، ويمنعه ذلك من الخوف الذي لحقه، ولا يستعظم ذلك، فيكون ذلك مانعا مما امر به، كما قال ﴿ سنشد عضدك بأخيك ﴾ ولم يرد خلاف الحل فكذلك الضم ليس يراد به الضم المزيل للفرجة. ومثله قول الشاعر:

اشدد حيازيمك للموت فان الموت لاقيك * ولا تجزع من الموت إذا حل بواديك (1)

وإنما يريد تأهب له. ثم قال " فذانك " يعني قلب العصا حية واخراج اليد البيضاء " برهانان " أي دليلان، واضحان من الله في ارسالك إلى فرعون واشراف قومه. ثم اخبر تعالى أن فرعون وقومه " كانوا قوما فاسقين " خارجين من طاعة الله إلى معاصيه. ثم حكى تعالى ما قال موسى، فإنه قال يا رب " اني قتلت منهم نفسا " يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه " فأخاف ان يقتلوني " بدله. وقال أيضا " وأخي هارون هو افصح مني لسانا " لان موسى كان في لسانه عقدة ولم يكن كذلك هارون، وسأل الله تعالى أن يرسل هارون معه " ردءا " أي عونا، والردء العون الذي يدفع السوء عن صاحبه، ومنه ردء الشئ يردأه رداءا فهو ردئ، فالرد المعين في دفع الردا عن صاحبه. ويقال: ردأته اردأه ردءا إذا أعنته. واردأته أيضا لغتان. وقوله " يصدقني " من جزمه جعله جوابا للامر، ومن رفعه جعله صفة للنكرة، وتقديره ردءا مصدقا " إني أخاف أن يكذبون " في ادعاء النبوة والرسالة، وقيل: ان موسى ما سأل ذلك إلا بإذن الله، لأنه لا يجوز ان يسأل نبي أن يرسل معه إنسانا آخر نبيا، وهو لا يعلم أنه يصلح لذلك، فلا يجاب إليه، فان ذلك ينفر عنه. فقال الله تعالى " سنشد عضدك بأخيك " أي سنقويك به بأن نقرنه إليك في الرسالة لنقوي بعضكما ببعض. " ونجعل لكما سلطانا " يعني حجة وقوة، وهي التي كانت لهما بالعصا. والسلطان القوة التي يدفع بها على الامر. والسلطان الحجة الظاهرة، وتقديره ونجعل لكما سلطانا ثابتا " فلا يصلون اليكما " فيه تقديم وتأخير. ثم قال تعالى " فلا يصلون اليكما " يعني فرعون، وقومه لا يتمكنون من قتلكما، ولا أذاكما، ثم قال " بآياتنا " أي بحججنا وبراهيننا " أنتما ومن اتبعكما " من بني إسرائيل وغيرهم " الغالبون " لفرعون، فعلى هذا يكون " أنتما " مبتدءا، " ومن اتبعكما " عطفا عليه " والغالبون " خبره " وبآياتنا " متعلق بقوله " الغالبون ". وعلى الوجه الآخر يكون " بآياتنا " متعلقا بقوله " ويجعل لكما سلطانا.... بآياتنا " قال الزجاج: يجوز أن يكون " بآياتنا " متعلقا بقوله " فلا يصلون اليكما " بآياتنا وحججنا، وكل ذلك محتمل.


1- اللسان (حزم) نسبه إلى علي (ع).