الآية 24
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة، ونافع " المخلصين " بفتح اللام. الباقون بكسرها. قال أبو علي حجة من كسر اللام قوله " أخلصوا دينهم " (1) ومن فتح اللام، فيكون بنى الفعل للمفعول به، ويكون معناه ومعنى من كسر اللام واحد، فإذا أخلصوا هم دينهم فهم مخلصون، وإذا أخلصوا فهم مخلصون. ومعنى (الهم) في اللغة على وجوه، منها: العزم على الفعل، كقوله " إذ هم قوم ان يبسطوا إليكم أيديهم " (2)، أي أرادوا ذلك وعزموا عليه ومثله قول الشاعر:
هممت ولم افعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله (3)
وقال حاتم طي:
ولله صعلوك تساور همه * ويمضي على الأيام والدهر مقدما (4)
ومنها: خطور الشئ بالبال، وان لم يعزم عليه. كقوله " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما " (5) والمعنى ان الفشل خطر ببالهم، ولو كان الهم ههنا عزما لما كان الله وليهما، لأنه قال " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله " (6)، وإرادة المعصية والعزم عليها معصية بلا خلاف، وقال قوم: العزم على الكبير كبير، وعلى الكفر كفر، ولا يجوز أن يكون الله ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم ويقوى ذلك ما قال كعب ابن زهير:
فكم فيهم من سيد متوسع * ومن فاعل للخير إن هم أو عزم
ففرق بين الهم والعزم وظاهر التفرقة يقتضي اختلاف المعنى، ومنها المقاربة يقولون: هم بكذا، وكذا أي كاد يفعله قال ذو الرمة:
أقول لمسعود بجرعاء مالك * وقد هم دمعي ان تسيح أوائله (7)
والدمع لا يجوز عليه العزم، وإنما أراد كاد، وقارب، وقال أبو الأسود الدؤلي:
وكنت متى تهمم يمينك مرة * لتفعل خيرا يعتقبها شمالكا (8)
وعلى هذا قوله تعالى " جدارا يريد ان ينقض " (9) أي يكاد وقال الحارثي:
يريد الرمح صدر أبي براء * ويرغب عن دماء بني عقيل (10)
ومنها الشهوة وميل الطباع، يقول القاتل فيما يشتهيه، ويميل طبعه ونفسه إليه هذا من همي، وهذا أهم الأشياء إلي. وروي هذا التأويل في الآية عن الحسن. وقال: اما همها وكان أخبث الهم، واما همه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء، وإذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه (ع) العزم على القبيح وأجزنا باقي الوجوه، لان كل واحد منها يليق بحال، ويمكن ان يحمل الهم في الآية على العزم، ويكون المعنى، وهم بضربها ودفعها عن نفسه، كما يقول القائل كنت هممت بفلان اي بأن أوقع به ضربا أو مكروها وتكون الفائدة على هذا الوجه في قوله " لولا أن رأى برهان ربه " مع أن الدفع عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها، إنه لما هم بدفعها أراه الله برهانا على أنه ان أقدم على ما يهم به، أهلكه أهلها وقتلوه، وانها تدعي عليه المراودة لها على القبيح وتقذفه بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر تعالى انه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه أو ظن القبيح واعتقاده فيه. فان قيل هذا يقتضي ان جواب (لولا) تقدمها في ترتيب الكلام، ويكون التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهم بضربها، وتقدم جواب (لولا) قبيح أو يقتضي أن تكون (لولا) بغير جواب!. قلنا: اما تقدم جواب (لولا) فجائز مستعمل وسنذكر ذلك فيما بعد، ولا نحتاج إليه في هذا الجواب، لان العزم على الضرب والهم به وقعا إلا أنه انصرف عنها بالبرهان الذي رآه، ويكون التقدير ولقد همت به، وهم بدفعها لولا أن رأى برهان ربه، لفعل ذلك، فالجواب المتعلق ب? (لولا) محذوف في الكلام، كما حذف في قوله " ولولا فضل الله عليكم ورحمته. وان الله رؤوف رحيم " (11) معناه، ولولا فضل الله عليكم لهلكتم ومثله " كلا لو تعلمون علم اليقين " (12) لم تنافسوا في الدنيا وتحرصوا على حطامها، وقال امرؤ القيس:
فلو انها نفس تموت سوية * ولكنها نفس تساقط أنفسا (13)
والمعنى فلو انها نفس تموت سوية لنقصت وفنيت، فحذف الجواب تعويلا على أن الكلام يقتضيه، ولابد لمن حمل الآية على أنه هم بالفاحشة ان يقدر الجواب، لان التقدير، ولقد همت بالزنا وهم بمثله، ، و " لولا أن رأى برهان ربه " لفعله. وإنما حمل همها على الفاحشة وهمه على غير ذلك، لان الدليل دل من جهة العقل والشرع على أن الأنبياء، لا يجوز عليهم فعل القبائح، ولم يدل على أنه لا يجوز عليها ذلك بل نطق القرآن بأنها همت بالقبيح، قال الله تعالى " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه. وقوله حاكيا عنها " الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين وقال " قالت فذلكن الذي لمتنني به ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " وأجمعت الأمة من المفسرين وأصحاب الاخبار على أنها همت بالمعصية، وقد بين الله تعالى ذلك في مواضع كثيرة ان يوسف لم يهم بالفاحشة. ولا عزم عليها منها قوله " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " وقوله " انه من عبادنا المخلصين " ومن ارتكب الفاحشة لا يوصف بذلك وقوله " ذلك ليعلم اني لم أخنه بالغيب " ولو كان الامر على ما قاله الجهال من جلوسه مجلس الخائن وانتهائه إلى حل السراويل، لكان خائنا، ولم يكن صرف عنه السوء والفحشاء. وقال أيضا " ولقد راودته عن نفسه " فاستعصم " وفي موضع آخر حكاية عنها " أنا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين " وقوله حكاية عن العزيز حين رأى القميص قد من دبر " انه من كيد كن إن كيد كن عظيم " فنسب الكيد إليها دونه، وقوله أيضا " يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك انك كنت من الخاطئين " فخصها بالخطاب وأمرها بالاستغفار دونه. وقوله " رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه. وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " والاستجابة تقتضي براءة ساحته من كل سوء، ويدل على أنه لو فعل ما ذكروه، لكان قد صبا ولم يصرف عنه كيدهن. وقوله " قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء " والعزم على المعصية من أكبر السوء. وقوله حاكيا عن الملك " ائتوني به استخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين امين " ومن فعل ما قاله الجهال لا يقال له ذلك. ووجه آخر في الآية: إذا حمل الهم على أن المراد به العزم، وهو ان يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون التقدير ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت، لولا أني تداركتك، وقتلت لولا أني خلصتك، والمعنى لولا تداركي لك لهلكت ولولا تخليصي لك لقتلت، وان لم يكن وقع هلاك ولا قتل قال الشاعر:
فلا يدعني قومي صريحا لحرة * لئن كنت مقتولا ويسلم عامر (14)
وقال آخر:
فلا يدعني قومي صريحا لحرة * لئن لم أعجل طعنة أو اعجل (15)
فقدم جواب (لئن) في البيتين جميعا. وقال قوم: لو جاز هذا لجاز أن تقول: قام زيد لولا عمرو، وقصد زيد لولا بكر، وقد بينا ان ذلك غير مستبعد، وان القائل قد يقول: قد كنت قمت لولا كذا، وكذا، وقد كنت قصدتك لولا أن صدني فلان، وان لم يقع قيام ولا قصد. على أن في الكلام شرطا، وهو قوله " لولا أن رأى برهان ربه " فكيف يحمل على الاطلاق. والبرهان الذي رآه، روي عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد: انه رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله. وقال قتادة: انه نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء. وروي في رواية أخرى عن ابن عباس: انه رأى الملك. وهذا الذي ذكروه كله غير صحيح، لان ذلك يقتضي الالجاء وزوال التكليف، ولو كان ذلك لما استحق يوسف على امتناعه من الفاحشة مدحا ولا ثوابا، وذلك ينافي ما وصفه الله تعالى. من أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وانه من عبادنا المخلصين. ويحتمل أن يكون البرهان لطفا لطف الله تعالى له في تلك الحال أو قبلها، اختار عنده الامتناع من المعاصي، وهو الذي اقتضى كونه معصوما ويجوز أن تكون الرؤية بمعنى العلم، وقال قوم: البرهان هو ما دل الله تعالى يوسف على تحريم ذلك الفعل، وعلى ان من فعله استحق العقاب، لان ذلك صارف عن الفعل ومقوي لدواعي الامتناع، وهذا أيضا جائز، وهو قول محمد بن كعب القرطي واختيار الجبائي.
1- سورة النساء آية 145.
2- سورة المائدة آية 12.
3- تفسير القرطبي 9: 166 ومجمع البيان 3: 223.
4- مجمع البيان 3: 223.
5- سورة آل عمران آية 122.
6- سورة الأنفال آية 16.
7- الأغاني (دار الثقافة) 17: 308.
8- مجمع البيان 3: 224.
9- سورة الكهف آية 78.
10- تأويل مشكل القرآن: 100، ومجمع البيان 3: 224.
11- سورة النور آية 20.
12- سورة التكاثر آية 5.
13- ديوان: 117 واللسان " جمع " وأمالي السيد المرتضى 1: 479. ورواية اللسان " جميعه " بدل " سوية ".
14- الكتاب لسيبويه 1 / 427 وأمالي الشريف المرتضى 1 / 480 ومجمع البيان 3 / 226.
15- مجمع البيان 3 / 225 وأمالي السيد المرتضى 1 / 480.