الآية 57

الآية 57

قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف " الريح " على التوحيد، ههنا وفي النمل، والثاني من الروم وفي فاطر وقرأ عاصم " بشرا " بالباء وضمها وسكون الشين. وقرأه نافع بالنون وضمها وضم الشين وهم أهل الحجاز والبصرة، وكذلك الخلاف في الفرقان، والنمل. قال أبو علي (الريح) اسم على وزن (فعل)، والعين منه واو فانقلبت ياء في الواحد للكسرة وصحت في الجمع القليل، لأنه لا شئ يوجب الاعلال ألا ترى أن الفتحة لا توجب اعلال هذه الواو في مثل يوم وقول وعون قال ذو الرمة:

إذا هبت الأرواح من نحو جانب * به آل مي هاج شوقي هبوبها (1)

وليس ذلك كعيد وأعياد، لان هذا بدل لازم وليس البدل في الريح كذلك. فاما في الجمع الكثير فرياح انقلبت الواو بالكسرة التي قبلها كما انقلبت في نحو ديمة وديم، وحيلة وحيل، وفي رياح أجدر، لوقوع الألف بعدها، والألف تشبه الياء، والياء إذا تأخرت عن الواو وجب فيها الاعلال فكذلك الألف لشبهها بها، والريح على لفظ الواحد، ويجوز ان يراد بها الكثرة، لقولهم: كثير الدرهم والدينار، وقوله " إن الانسان لفي خسر " ثم قال " إلا الذين آمنوا " (2) فكذلك من قرأ " الريح بشرا " فأفرد، ووصفه بالجمع، فإنه حملها على المعنى. وقد أجاز أبو الحسن ذلك وقال الشاعر: فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا (3) ومن نصب جاء قوله على المعنى، لان المفرد يراد به الجمع، وهذا وجه قراءة ابن كثير لأنه أفرد (الريح) ووصفه بالجمع، فلا يكون (الريح) على هذا اسم جنس وقول من جمع الريح إذا وصفها بالجمع أحسن إذ الحمل على المعنى أقل من الحمل على اللفظ، ويؤكد ذلك قوله " الرياح مبشرات " (4) فلما وصفت بالجمع جمع الموصوف أيضا. فأما ما جاء في الحديث من أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقول إذا هبت ريح: (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا) فلان عامة ما جاء بلفظ الرياح السقيا والرحمة، كقوله " وأرسلنا الرياح لواقح " (5) وقوله " ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات " (6) وقوله " الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء " (7). وما جاء بخلاف ذلك جاء على الافراد كقوله " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم " (8) وقوله " وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر " (9) وقوله " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم " (10). قال أبو عبيدة " نشرا " أي متفرقة من كل جانب، وقال أبو زيد: انشر الله الموتى إنشارا إذا بعثها وأنشر الله الريح مثل أحياها، فنشرت الجنوب وأحييت، والدليل على ذلك قول المراد الفقسي:

وهبت له ريح الجنوب وأحييت * له ريدة يحيي المياه نسيمها (11)

والريدة والريدانة الريح، قال الشاعر:

إني لأرجو أن تموت الريح * فأقعد اليوم واستريح (12)

ومن قرأ " نشرا " بضم النون والشين يحتمل ضربين: جمع ريح، ريح نشور وريح ناشر، ويكون على معنى النسب فإذا جعله جمع نشور احتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون النشور بمعنى المنشر كما أن الركوب بمنزلة المركوب كان المعنى ريح أو رياح منشرة، ويجوز أن يكون نشرا جمع نشور يريد به الفاعل مثل طهور ونحوه من الصفات.

ويحتمل: أن يكون نشر جمع ناشر كشاهد وشهد ونازل ونزل وقايل وقيل، قال الأعشى: إنا لأمثالكم يا قومنا قيل (13) وقول ابن عامر (بشرا) يحتمل الوجهين: أن يكون جمع فعول وفاعل فخفف العين، كما خفف في كتب ورسل، ويكون جمع فاعل كبارك وبرك وغايظ وغيظ. ومن فتح النون وسكون الشين فإنه يحتمل ضربين:

أحدهما: أن يكون المصدر حالا من الريح فذا جعلته حالا منها احتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون النشر الذي هو خلاف الطبي، كأنها كانت بانقطاعها كالمطوية، ويجوز على تأويل أبي عبيدة أن تكون متفرقة في وجوهها.

والآخر: أن يكون النشر الذي هو الحياة من قوله:

حتى يقول الناس مما رأوا * يا عجبا للميت الناشر (14)

فإذا حملته على ذلك - وهو الوجه - كان المصدر يراد به الفاعل، كما تقول أتافا ركضا أي راكضا، ويجوز أن يكون المصدر يراد به المفعول كأنه يرسل الرياح انشارا أي محياة فحذف الزوائد من المصدر، كما يقال عمرك الله. وكما يقال: فان يهلك فذلك كان قدري أي تقديري.

والضرب الاخر: أن يكون " نشرا " على هذه القراءة ينصب انتصاب المصادر من باب " صنع الله " (15) لأنه إذا قال يرسل الرياح دل هذا الكلام على تنشير الريح نشرا. وقراءة عاصم " بشرا " بالباء فهو جمع بشير وبشر من قوله " يرسل الرياح مبشرات " (16) أي تبشر بالمطر والرحمة وجمع بشير) على (بشر) ككتاب وكتب. لما أخبر الله تعالى في الآية الأولى أنه الذي خلق السماوات والأرض وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات، وأنه الذي يجلل الليل النهار، عطف على ذلك بأن قال " وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " تعدادا لنعمه على خلقه. والارسال هو الاطلاق بتحميل معنى، كما تقول: أرسلت فلانا أي حملته رسالة، فلما أطلق الله الرياح كان ذلك بمنزلة المطوي في الامتناع من الادراك ثم صارت تدرك في الآفاق، كانت كنشر الثوب بعد طيه في الادراك قال امرؤ القيس:

كان المدام وصوب الغمام * وريح الخزامي ونشر القطر (17)

وقال الفراء: النشر من الرياح: الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب، والسحاب الغيم الجاري في السماء مشتقا من الاسحاب، يقال: سحبه سحبا وأسحب إسحابا وتسحب تسحبا. وقوله " بين يدي رحمته " معناه قدام رحمته، كما يقدم الشئ بين يدي الانسان، كما قال لما خلقت بيدي " (18) أي توليت خلقه، كما يقول الانسان: عملت بيدي، والرحمة يراد بها - ههنا - الغيث. وقوله " حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " فلا قلال حمل الشئ بأسره حتى يقل في طاقة الحامل له بقوة جسمه، يقال: استقل بحمله استقلالا. وأقله إقلالا، والثقال جمع ثقيل والثقيل ما فيه الاعتماد الكثير سفلا. وقال قوم: هو ما تجمع أجزاؤه كالذهب والحجر، وقد يكون بكثرة ما حمل كالسحاب الذي يثقل بالماء. وقوله " سقناه لبلد ميت " أي إلى بلد، فالسوق حث الشئ في السير حتى يقع الاسراع فيه، ساقه يسوقه سوقا، واستاقه استياقا، وساوقه مساوقة، وتساوقوا تساوقا، وتسوق تسوقا، وانساق انسياقا، وسوقه تسويقا. (والبلد الميت) هو الذي اندرست مشاربه وتعفت مزارعه. وقوله " فأنزلنا به الماء " الهاء في (به) راجعة إلى البلد. ويحتمل أن تكون راجعة إلى السحاب. وقوله " فأخرجنا به من الثواب " فالهاء في (به) يحتمل أن تكون راجعة إلى البلد، ويكون التقدير أخرجنا بهذا البلد. ويحتمل أن تكون راجعة إلى الماء، فكأنه قال فأخرجنا بهذا الماء من كل الثمرات. ويحتمل أن تكون (من) للتبعيض. ويحتمل أن تكون لتبيين الجنس. وقوله " كذلك نخرج الموتى " معناه كما أخرجنا الثمرات. كذلك نخرج الموتى بعد موتها بأن نحييها " لعلكم تذكرون " معناه لكي تتذكروا، وتتفكروا وتعتبروا بأن من قدر على انشاء الأشجار والثمار في البلد الذي لا ماء فيه ولا زرع، فإنه يقدر على أن يحيي الأموات بأن يعيدها إلى ما كانت عليه بأن يخلق فيها الحياة والقدرة. واستدل البلخي بهذه الآية على أن كثيرا من الأشياء تكون بالطبع. قال: لان الله تعالى بين انه يخرج الثمرات بالماء الذي ينزله من السماء، قال: ولا ينبغي أن ينكر ذلك وإنما ينكر قول من يقول بقدم الطبائع أو قول من يقول: إن الجمادات تفعل. فأما من قال: إن الله تعالى يفعل هذه الأشياء غير أنه يفعلها تارة مخترعة بلا وسائط وتارة بوسائط، فلا كراهة في ذلك كما تقول في السبب والمسبب، وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لأنه إن أشار بالطبع إلى رطوبات مخصوصة ويبوسات مخصوصة، فلا خلاف في ذلك غير أن هذه الأشياء لا تتولد عنها ذوات أخر، بل ما يحصل عندها الله تعالى يفعلها مبتدأ، وليس كذلك السبب والمسبب، لان السبب الذي يفعل الفعل بها وهو الاعتماد والمجاوزة يوجب التأليف، وما عدا ذلك فليس فيه شئ تولد أصلا، وإن أراد بالطبع غير هذا المعقول فليس في الآية دلالة على صحته بحال.

1- تفسير ابن حيان 4: 316.

2- سورة 103 العصر آية 2 - 3.

3- قائله عنترة وتمام البيت: فيها اثنتان وأربعون حلوبة * سودا كخافية الغراب الاسحم.

4- سورة 30 الروم آية 46.

5- سورة 15 الحجر آية 22.

6- سورة 30 الروم آية 46.

7- سورة 30 الروم آية 48.

8- سورة 51 الذاريات آية 41.

9- سورة 69 الحاقة آية 6.

10- سورة 46 الأحقاف آية 24.

11- اللسان (ريد) وتفسير أبي حيان 4 / 316، ورواية اللسان (الممات) بدل (المياه).

12- اللسان (نشر) وتفسير أبي حيان 4 / 316.

13- ديوانه: 47 قصيدة 6 وروايته (قتل) بدل (قيل) وصدره: * كلا زعمتم بأنا لا نقاتلكم *.

14- تفسير أبي حيان 4 / 316 واللسان (نشر).

15- سورة 27 النمل آية 88.

16- سورة 30 الروم آية 46.

17- ديوانه: 79 واللسان (نشر) وتفسير الطبري 12 / 490 يصف صاحبته بأن ريح فمها ذا نكهة طيبة عند قيامها من النوم. والقطر: عود طيب الرائحة.

18- سورة 38 ص آية 75.