الآية 46

قوله تعالى: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾

قوله " وبينهما " يعني بين أصحاب الجنة وأصحاب النار " حجاب " والحجاب هو الحاجز المانع من الادراك، ومنه قيل للضرير: محجوب، وحاجب الأمير، وحاجب العين. وحجبه عنه أي منعه من الوصول إليه. وقوله " وعلى الأعراف رجال " فالأعراف المكان المرتفع أخذ من عرف الفرس ومنه عرف الديك، وكل مرتفع من الأرض يسمى عرفا، لأنه بظهوره أعرف مما انخفض، قال الشماخ:

وظلت بأعراف تغالي كأنها * رماح نحاها وجهة الرمح راكز (1)

وقال آخر:

كل كناز لحمه نياف * كالعلم الموفى على الأعراف (2)

يعني بنشوز من الأرض، وقيل: هو سور بين الجنة والنار، كما قال تعالى " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " (3) وهو قول مجاهد والسدي. واختلفوا في الذين هم على الأعراف على أربعة أقوال:

أحدها: أنهم فضلاء المؤمنين - في قول الحسن ومجاهد - قال أبو علي الجبائي هم الشهداء، وهم عدول الآخرة، وقال أبو جعفر (ع) هم الأئمة، ومنهم النبي صلى الله عليه وآله. وقال أبو عبد الله (ع) الأعراف كثبان بين الجنة والنار، فيوقف عليها كل نبي وكل خليفة نبي مع المذنبين من أهل زمانه، كما يوقف قائد الجيش مع الضعفاء من جنده، وقد سبق المحسنون إلى الجنة، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه انظروا إلى اخوانكم المحسنين، قد سبقوا إلى الجنة فيسلم المذنبون عليهم. وذلك قوله " ونادوا أصحاب الجنة ان سلام عليكم ". ثم اخبر تعالى " انهم لم يدخلوها وهم يطمعون " يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة، وهم يطمعون ان يدخلهم الله إياها بشفاعة النبي والامام، وينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار، فيقولون " ربما لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ". ثم ينادي أصحاب الأعراف، وهم الأنبياء والخلفاء أهل النار مقرعين لهم " ما أغنى عنكم جمعكم... أهؤلاء الذين أقسمتم " يعني هؤلاء المستضعفين الذين كنتم تحتقرونهم وتستطيلون بدنياكم عليهم. ثم يقولون لهؤلاء المستضعفين عن أمر الله لهم بذلك " ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " (4). ويؤكد ذلك ما رواه عمر بن شيبة وغيره: ان عليا (ع) قسيم الجنة والنار، فروى بن شيبة بأسناده عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (يا علي كأني بك يوم القيامة وبيدك عصا من عوسج تسوق قوما إلى الجنة وآخرين إلى النار).

الثاني: قال أبو مجلز: هم ملائكة يرون في صورة الرجال.

الثالث: قال حذيفة: ، هم قوم تبطئ بهم صغائرهم إلى آخر الناس.

الرابع: قال الفراء والزجاج وغيرهما: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فأدخلهم الله تعالى الجنة متفضلا عليهم. وطعن الرماني والجبائي على هذا الوجه بأن قالا: الاجماع منعقد على أنه لا يدخل الجنة من المكلفين الا المطيع الله. وهذا الذي ذكروه ليس بصحيح، لان هذا الاجماع دعوى ليس على صحته دليل، بل من قال ما حكيناه لا يسلم ذلك، وأكثر المرجئة أيضا لا يسلمون ذلك. وقوله " يعرفون كلا بسيماهم " يعني هؤلاء الرجال الذين هم على الأعراف يعرفون جميع الخلق بسيماهم أهل الجنة بسيما المطيعين وأهل النار بسيما العصاة. والسيماء العلامة، وهي في أهل النار سواد الوجوه ورزقة العيون، وفي أهل الجنة بياض الوجوه وحسن العيون - في قول الحسن وغيره - وقيل في وزن سيما قولان:

أحدهما: انه (فعلى) من سام إبله يسومها إذا أرسلها في المرعى، وهي السائمة.

الثاني: ان وزنه وزن (فعلى)، وهو من وسمت، فقلبت الواو إلى موضع العين، كما قالوا له جاه في الناس أي وجه، وقالوا: اضمحل واضمحل وارض خامة أي وخيمة، وفيها ثلاث لغات القصر والمد. وسيماء، قال الشاعر:

غلام رماه الله بالحسن يافعا * له سيماء لا تشق على البصر (5)

على زنة (كبرياء). وقوله " ونادوا أصحاب الجنة " يعني هؤلاء الذين على الأعراف ينادون يا أصحاب الجنة " سلام عليكم، لم يدخلوها وهم يطمعون " قيل في الطامعين قولان:

أحدهما: قال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة انهم أصحاب الأعراف. وقال أبو مجلز: هم أهل الجنة الذين ما دخلوها بعد. والطمع - ههنا - هو يقين بلا شك، لأنهم عالمون بذلك ضرورة. وهو مثل قول إبراهيم " والذي أطمع ان يغفر لي خطيئتي يوم الدين "(6) ولم يكن إبراهيم (ع) شاكا في ذلك بل كان عالما قاطعا، وإنما حسن ذلك لعظم شأن المتوقع في جلالة النعمة به، وهو قول الحسن وأبي علي الجبائي وأكثر المفسرين.


1- ديوانه: 53 ومجاز القرآن 1 / 215، وروايتهما (وظلت تغالي باليفاع كأنها) وفي الطبري 12 / 449 مثل هنا تماما.

2- مجاز القرآن 1 / 215 واللسان (نوف) والطبري 12 / 450. (الكنار) المجتمع (والنياف) الطويل. و (العلم) الجبل.

3- سورة 57 الحديد آية 13.

4- سورة الأعراف آية 47 - 48.

5- قائله سدير بن عنقاء الفزاري. الأغاني 17 / 117، والكامل 1 / 14 ومعجم الشعراء: 159، 323 وأمالي القالي 1 / 237 والحماسة 4 / 68.

6- سورة 26 الشعراء آية 82.