الآية 44
قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾
القراءة:
قرأ حمزة، والكسائي وابن كثير في رواية شبل (ان) مشددة النون. الباقون خفيفة. وكذلك ابن كثير في رواية قنبل بتخفيف النون سكونها ورفع (لعنة). الباقون بتشديد النون ونصب (لعنة). وقر أ الكسائي وحده " قالوا نعم " بكسر العين. وفي الشعراء " قال نعم " وفي الصافات " قل نعم " بفتح النون. قال أبو الحسن الأخفش: نعم ونعم لغتان، فالكسر لغة كنانة وهذيل، والفتح لغة باقي العرب، وفي القراءة الفتح. وقال سيبويه (نعم) عدة وتصديق فإذا استفهمت أجبت ب? (نعم). ولم يحك سيبويه الكسر، ومعنى قوله: عدة وتصديق انه يستعمل عدة ويستعمل تصديقا، ولا يريد أن العدة تجتمع مع التصديق ألا ترى انه إذا قال قائل: أتعطيني، فقال: نعم، كان عدة، ولا تصديق في ذلك، وإذا قال: قد كان كذا وكذا، فقلت نعم، فقد صدقته، ولا عدة في هذا. وقوله " فأذن مؤذن " بمنزلة اعلم معلم، قال سيبويه: أذن اعلام بصوت، فالتي تقع بعد العلم. و (أن) إنما هي المشددة أو المخفضة عنها والتقدير اعلم معلم ان لعنة الله. ومن خفف (ان) كان على اضمار القصة والحديث، فتقديره انه لعنة الله، ومثل ذلك قوله " وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين " (1) والتقدير (انه) ولا تخفف (ان) الا مع اضمار الحديث فالقصة تراد معها. ومن ثقل نصب ب? (ان) ما بعدها، كما ينصب بالمشددة المكسورة. والمكسورة إذا خففت لا يكون ما بعدها على اضمار القصة والحديث، كما تكون المفتوحة كذلك. والفرق بينهما ان المفتوحة موصولة، والموصولة تقتضي صلتها، فصارت لاقتضائها الصلة أشد اتصالا بما بعدها من المكسورة، فقدر بعدها الضمير الذي هو من جملة صلتها، وليست المكسورة كذلك، لان (ان) المفتوحة بمعنى المصدر، فلا بدلها من اسم وخبر، لأنها تلتغي بأن يكون دخولها كخروجها، وليس كذلك (ان)، ومن المفتوحة قول الأعشى:
في فتية كسيوف الهند قد علموا * ان هالك كل من يخفى وينتعل (2)
وأما قراءتهم في النور " ان غضب الله " (3) فان (ان) في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، واما قراءة نافع " ان غضب الله " فحسن، وهو بمنزلة قوله و " آخر دعواهم ان الحمد لله " (4) وليس لاحد ان يقول: هذا لا يستحسن لان المخففة من الشديدة لا يقع بعدها الفعل حتى يقع عوض من حذف (ان) ومن أنها تولى ما يليها من الفعل، يدل على ذلك " علم أن سيكون منكم " (5) وقوله " لئلا يعلم أهل الكتاب ان لا يقدرون على شئ " (6) وذلك انهم استجازوا ذلك وان لم يدخل معه شئ من هذه الحروف، لأنه دعاء، وليس شئ من هذه الحروف يحتمل الدخول معه، ونظير هذا في أنه لما كان دعاء لم يلزمه العوض قوله " نودي ان بورك من في النار ومن حولها " (7) فولي قوله " بورك " (ان) وان لم يدخل معها عوض، كما لم يدخل في قراءة نافع " ان غضب الله عليها " (8) والدعاء قد استجيز معه ما لم يستجز مع غيره ألا ترى انهم قالوا: (اما ان جزاك الله خيرا من) حمله سيبويه على اضمار القصة في (ان) المكسورة ولم يضمر القصة مع المكسورة الا في هذا الموضع. وقوله " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار " معناه وقال أصحاب الجنة يا أصحاب النار بعد دخول هؤلاء الجنة ودخول هؤلاء النار. والصاحب هو المقارن للشئ على نية طول المدة، والصحبة والمقارنة نظائر، الا ان في الصحبة الإرادة. ومنه قيل أصحاب الصحراء. وقوله " ان قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " معناه وجدنا ما وعدنا الله على لسان رسله من الثواب على الايمان وعمل الطاعات " فهل وجدتم ما وعدكم ربكم " على ألسنتهم " حقا " جزاء على الكفر من العقاب وعلى معاصيه من أليم العذاب، فأجابهم أهل النار: بأن " قالوا نعم " والغرض بهذا النداء تبكيت الكفار وتوبيخهم، وان الله تعالى صدق فيما وعد به على لسان نبيه ليحزن الكفار بذلك ويتحسروا عليه. والوجدان على ضربين:
أحدهما: بمعنى العلم فهو يتعدى إلى مفعولين.
والاخر: بمعنى الاحساس يتعدى إلى واحد. وإنما كان كذلك، لان الذي بمعنى العلم يتعلق بمعنى الجملة، والذي يتعلق بالاحساس يتعلق بمعنى المفرد من حيث إن الاحساس لا يتعلق بالشئ الا من وجه واحد. وجواب الايجاب يكون (نعم) وجواب النفي (بلى)، لان (نعم) تحقق معنى الخبر المذكورة في الاستفهام و (بلى) تحققه باسقاط حرف النفي. وقوله " فأذن مؤذن بينهم " معناه نادى مناد نداء أسمع الفريقين " أن لعنة الله على الظالمين " ولعنة الله غضبه وسخطه وعقوبته على من كفر به فيسر بذلك أهل الجنة ويغتم أهل النار. وقال الأخفش والزجاج: يجوز أن تكون (ان) بمعنى اي " قد وجدنا " ولا يجب أن تكون (أن) بمعنى أي (قد وجدنا). ونادوهم مشرفين عليهم من السماء في الجنة، لان الجنة في السماء، والنار في الأرض. وقوله " وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " إنما أضافوا الوعد بالجنة إلى نفوسهم، لان الكفار ما وعدهم الله بالجنة والثواب إلا بشرط أن يؤمنوا، فلما لم يؤمنوا فكأنهم لم يوعدوا، وكذلك قوله " ما وعد ربكم " يعنون من العقاب لان المؤمنين لما كانوا مطيعين مستحقين للثواب فكأنهم لم يوعدوا بالعقاب، وإنما خص الكفار.1- سورة 10 يونس آية 10.
2- ديوانه: 45 وتفسير الطبري 12 / 444 وغيرهما وسيأتي في 5 / 396.
3- سورة 24 النور آية 9.
4- سورة 10 يونس آية 10.
5- سورة 73 المزمل آية 20.
6- سورة 57 الحديد آية 29.
7- سورة 27 النمل آية 8.
8- سورة 24 النور آية 9.