الآية 43
قوله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
نزع الغل في الجنة تصفية الطباع، وإسقاط الوساوس، وإعطاء كل نفس مناها، ولا يتمنى أحد ما لغيره. قرأ ابن عامر " ما كنا لنهتدي " بلا واو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. الباقون باثباتها. وجه الاستغناء عن الواو أن الجملة متصلة بما قبلها فأغنى التباسها بها عن حرف العطف. ومثله " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم " فاستغنى عن حرف العطف بالالتباس من احدى الجملتين بالأخرى. ومن أثبت الواو فلعطفه جملة على جملة. في هذه الآية إخبار عما يفعله بالمؤمنين في الجنة بعد أن يخلدهم فيها، بأن ينزع ما في صدورهم من غل، فالنزع رفع الشئ عن مكانه المتمكن فيه، إما بتحويله، وإما باعدامه. ومعنى نزع الغل - ههنا - إبطاله. وقيل في ما ينزع الغل من قلوبهم قولان:
أحدهما: قال أبو علي: بلطف الله لهم في التوبة حتى تذهب صفة العداوة.
الثاني: بخلوص المودة حتى يصير منافيا لغل الطباع. والثاني أقوى، لان قوله " تجري من تحتهم الأنهار " حال لنزع الغل، وكأنه قال: ونزعنا ما في صدورهم من غل في حال تجري من تحتهم الأنهار وعلى الأولى يكون " تجري من تحتهم الأنهار " مستأنفا. والغل: الحقد الذي ينقل بلطفه إلى صميم القلب، ومنه الغلول، وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة، ومنه الغل الذي يجمع اليدين والعنق بانغلاله فيها. والصدر: ما يصدر من جهته التدبير والرأي، ومنه قيل للرئيس: صدر، وقيل صدر المجلس. وقوله " تجري من تحتهم الأنهار " فالجريان انحدار المائع، فالماء يجري، والدم يجري، وكذلك كل ما يصح أن يجري، فهو مائع، وجرى الفرس في عدوه مشبه بجري الماء في لينه وسرعته. وقوله " تجري من تحتهم الأنهار " فالنهر المجرى الواسع من مجاري الماء، ومنه النهار لاتساع ضيائه، وانهار الدم لاتساع مخرجه. وقوله " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله " إخبار عن قول أهل الجنة واعترافهم بالشكر لله تعالى الذي عرضهم له بتكليفه إياهم ما يستحقون به الثواب. وقيل: معنى " هدانا لهذا " يعني لنزع الغل من صدورنا. وقيل: هدنا لثبات الايمان في قلوبنا. وقيل: هدنا لجواز الصراط. وقوله " لقد جاءت رسل ربنا بالحق " إقرار من أهل الجنة واعتراف بأن ما جاءت به الرسل إليهم من جهة الله أنه حق لا شبهة فيه، ولا مرية في صحته. وقوله " ونودوا ان تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " فالنداء الدعاء بطريقة يا فلان كأنه قيل لهم: أيها المؤمنون " أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " جزاء لكم على ذلك، على وجه التهنئة لهم بها. و (أن) مخففة من الثقيلة و (الهاء) مضمرة، والتقدير ونودوا بأنه تلكم الجنة. وقال الزجاج " أن تلكم " تفسير للنداء، والمعنى قيل لكم: تلكم الجنة. وإنما قال " تلكم " لأنهم وعدوا بها في الدنيا، وكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها. ويجوز أن يكونوا عاينوها، فقيل لهم - قبل أن يدخلوها - إشارة إليها " تلكم الجنة ". ومن أدغم، فلان الثاء والتاء مهموستان متقاربتان فاستحسن الادغام. ومن ترك الادغام في " أورثتموها " وهو ابن كثير، ونافع وعاصم وابن عامر - فلتباين المخرجين، وأن الحرفين في حكم الانفصال، وإن كانا في كلمة واحدة، كما لم يدغموا " ولو شاء الله ما اقتتلوا " (1) وإن كانا مثلين لا يلزمان لان تاء (افتعل) قد يقع بعدها غير التاء، فكذلك أورث، قد يقع بعدها غير التاء، فلا يجب الادغام. واستدل الجبائي بذلك على أن الثواب يستحق بأعمال الطاعات، ولا يستحق من جهة الأصلح، لان الله تعالى بين انهم أورثوها جزاء بما عملوه من طاعته (عز وجل).1- سورة 2 البقرة آية 253.