الآيات 16-17
قوله تعالى: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾
قوله " قال فبما " حكاية عن قول إبليس، لما لعنه الله، وطرده وحكى سؤاله الانظار، وإجابة الله تعالى إلى شئ منه، قال حينئذ " فبما أغويتني " أي فبالذي أغويتني. وقيل في معنى هذه الباء ثلاثة أقوال:
أحدهما: اني مع اغوائك إياي كما تقول بقيامك تناول هذا أي مع قيامك.
الثاني: معناه اللام، والتقدير فلاغوائك إياي.
الثالث: أنها بمعنى القسم كقولك بالله لأفعلن. وقيل في معنى أغويتني ثلاثة أقوال:
أحدها: قال أبو علي والبلخي: معناه بما خيبتني من جنتك، كما قال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يعولا يعدم على الغي لائما (1)
أي من يخب، وقال قوم: يجوز أن يكون أراد إنك امتحنتني بالسجود، لادم فغويت عنده، فقال (أغويتني) كما قال " فزادتهم رجسا إلى رجسهم " (2).
الثاني: قال ابن عباس وابن زيد: معناه حكمت بغوايتي كقولك: أضللتني أي حكمت بضلالتي.
الثالث: أغويتني بمعنى أهلكتني بلعنك إياي، كما قال الشاعر:
معطفة الأثناء ليس فصيلها * برازئها درا ولا ميت غوى (3)
أي ولا ميت هلاكا بالقعود عن شرب اللبن. ومنه قوله " فسوف يلقون غيا " (4) أي هلاكا. ويقولون: غوى الفصيل إذا أنفذ اللبن فمات. والمصدر غوى مقصورا وقوله " لأقعدن لهم " جواب القسم. والقسم محذوف، لان غرضه بالكلام التأكيد، وهو ضد قوله " ص والقرآن ذي الذكر " (5) فإنه حذف الجواب، وهي القسم، لان الغرض تعظيم المقسم به. وقعوده على الصراط معناه أنه يقعد على طريق الحق ليصد عنه بالاغواء حتى يصرفه إلى طريق الباطل عداوة له وكيدا. وقوله " صراطك " المستقيم " قيل في نصب (صراطك) أنه نصب على الحذف دون الظرف، وتقديره على صراطك، كما قيل ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن قال الشاعر:
لدن بهز الكف يعسل متنه * فيه كما عسل الطريق الثعلب (6)
وقال آخر:
كأني إذا أسعى لا ظفر طائرا * مع النجم في جو السماء يصوب (7)
أي لا ظفر على طائر، وإغواء الله تعالى لإبليس لم يكن سببا لضلاله، لأنه تعالى علم أنه لو لم يغوه لوقع منه مثل الضلال الذي وقع أو أعظم، فأما قول من قال: إنه لو كان ما يفعل به الايمان هو ما يفعل به الكفر، لكان قوله " بما أغويتني " وبما أصلحتني بمعنى واحد، فكلام غير صحيح، لان صفة الآلة التي يقع بها الايمان خلاف صفتها إذا وقع بها الكفر. وإن كانت واحدة كالسيف. ولا يجب من ذلك أن تكون صفتها واحدة من أجل أنها واحدة بل لا يمتنع أنه متى استعمل آلة الايمان في الضلال سمي إغواء، وإن استعمل في الايمان سمي هداية، وإن كان ما يصح به الايمان والكفر والضلال واحدا. وقوله " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: قال ابن عباس وقتادة وإبراهيم بن الحكم والسدي وابن جريج: من قبل دنياهم وآخرتهم. ومن جهة حسناتهم وسيئاتهم.
الثاني: قال مجاهد: من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون.
الثالث: قال البلخي وأبو علي: من كل جهة يمكن الاحتيال عليهم بها. وقال ابن عباس: ولم يقل من فوقهم، لان رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم، ولم يقل من تحت أرجلهم، لان الاتيان منه موحش. وقال أبو جعفر (ع) " ثم لآتينهم من بين أيديهم " معناه أهون عليهم أمر الآخرة، ومن خلفهم آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم " وعن أيمانهم " وأفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة " وعن شمائلهم " بتجيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم. وقال الزجاج: " من بين أيديهم " معناه أغوينهم حتى يكذبوا بالبعث والنشور، " ومن خلفهم " حتى يجحدوا ما كان من أخبار الأمم الماضية والأنبياء السالفة. وإنما دخلت (من) في الخلف والقدام، و (عن) في اليمين والشمال، لان في القدام والخلف معنى طلب النهاية، وفي اليمين والشمال الانحراف عن الجهة. ودخول (ثم) في الكلام: بيان أن هذا المعنى يكون بعد القعود في طريقهم. وقوله " ولا تجد أكثرهم شاكرين " إخبار من إبليس أن الله لا يجد أكثر خلقه شاكرين. وقيل: يمكن أن يكون علم ذلك من أحد وجهين:
أحدهما: قال أبو علي: ذلك علمه من جهة الملائكة باخبار الله تعالى إياهم.
الثاني: قال الحسن: يجوز أن يكون أخبر عن ظنه ذلك، كما قال تعالى " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه " لأنه لما أغوى آدم فاستزله، قال ذرية هذا أضعف منه، وظن أنهم سيجيبونه ويتابعونه.1- مر هذا البيت في 2 / 312 وسيأتي في 5 / 548.
2- سورة 9 التوبة آية 126.
3- قائله (مدرج الريح الجرمي) واسمه (عامر بن المجنون)، الشعر والشعراء: 713، والمعاني الكبير: 1047 والمخصص 7 / 41، 180 وتهذيب اصلاح المنطق 2 / 54 واللسان (غوى) وتفسير الطبري 12 / 333.
4- سورة 19 مريم آية 59.
5- سورة 38 ص آية 2.
6- قائله ساعدة بن جؤية الهذلي ديوانه 1 / 190 وسيبويه 1 / 16، 190 وخزانة الأدب 1 / 474 وتفسير الطبري 12 / 337 وغيرها.
7- تفسير الطبري 12 / 337.