الآية 4
قوله تعالى: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾
(كم) لفظة موضوعة للتكثير و (رب) للتقليل. وإنما كان كذلك، لان (رب) حرف، و (كم) اسم. والتقليل ضرب من النفي و (كم) تدخل في الخبر بمعنى التكثير. فأما في الاستفهام، فلا، لان الاستفهام موكول إلى بيان المجيب والخبر إلى بيان المخبر، وإنما دخلها التكثير، لان استبهام العدد ان يظهر أو يضبط إنما يكون لكثرته في غالب الامر، ف? (كم) مبهمة قال الفرزدق:
كم عمة لك يا جرير وخالة * فدعاء قد حلبت علي عشاري (1)
فدل ب? (كم) على كثرة العمات، وموضع (كم) في الآية رفع بالابتداء وخبرها (أهلكناها) ولو جعلت في موضع نصب جاز، كقوله " أنأكل شئ خلقناه بقدر " (2)، والأول أجود. اخبر الله تعالى - على وجه الترهيب للكفار والايعاد لهم - أنه أهلك كثيرا من القرى، يعني أهلها بما ارتكبوه من معاصيه، والكفر به، وانه أنزل عليهم بأسه، يعني عذابه " بيانا " يعني في الليل " أو هم قائلون " يعني في وقت القيلولة، وهو نصف النهار. وأصله الراحة، فمعنى أقلته البيع أرحته منه باعفائي إياه من عقده، وقلت إذا استرحت إلى النوم، في وسط النهار: القائلة. والاخذ بالشدة في وقت الراحة أعظم في العقوبة فلذلك خص الوقتين بالذكر. وقيل في دخول الفاء في قوله " فجاءها بأسنا بياتا " ثلاثة أقوال:
أحدها: أهلكناها في حكمنا " فجاءها بأسنا " وقد قيل: هو مثل زرني واكرمني فان نفس الاكرام هي الزيارة، قال الرماني: وليس هذا مثل ذلك، لان هذا إنما جاز لأنه قصد الزيارة. ثم الاكرام بها.
الثاني: قال قوم " أهلكناها فجاءها بأسنا " أي فكان صفة اهلاكنا أن جاءهم بأسنا.
الثالث: أهلكناها فصح انه جاءها بأسنا. وقال الفراء الفاء بمعنى الواو، وقال الرماني: هذا لا يجوز، لأنه نقل للحرف عن معناه بغير دليل. وقال بعضهم: ان المعنى أهلكناها بخذلاننا لها عن الطاعة فجاءها بأسنا عقوبة على المعصية، وهذا لا يجوز لأنه ليس من صفة الحكيم ان يمنع من طاعته حتى تقع المعصية، ثم يعاقب عليها. وقوله " أو هم قائلون " قال الفراء: واو الحال مقدرة فيه، وتقديره أو " وهم قائلون " وإنما حذفت استخفافا. وقال الزجاج وجميع البصريين لا يحتاج إلى ذلك، لأنه يستغني برجوع الذكر عن الواو، كما يقال: جاءني زيد راجلا أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى واو، لان الذكر قد عاد على الأول. فمعنى الآية ان الله أهلك أهل قريات كثيرة بتمردهم في المعاصي، وحذر من أن يعمل مثل عملهم فينزل بالعامل مثل ما نزل بهم.1- ديوانه 451 وتفسير الطبري 12 / 300 وسيبويه 1 / 253، 293.
2- سورة 54 القمر آية 49.