الآية 150

قوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾

المعنى:

قيل في تكرار قوله: " ومن حيث خرجت " ثلاثة أقوال:

أحدها: لاختلاف المعنى وإن اتفق اللفظ، لان المراد بالأول: من حيث خرجت منصرفا عن التوجه إلى بيت المقدس. " فول وجهك شطر المسجد الحرام " وأريد بالثاني أين كنت في البلاد، فتوجه نحو المسجد الحرام مستقبلا كنت لظهر الكعبة أو وجهها أو يمينها أو شمالها.

الثاني: لاختلاف المواطن التي تحتاج إلى هذا المعنى فيها.

الثالث: لأنه مواضع التأكيد بالنسخ الذي نفلوا فيه من جهة إلى جهة للتقرير والتثبيت. فان قيل هل في قوله تعالى: " وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " حذف منه (في الصلاة) أم هو مدلول عليه من غير حذف؟قيل: هو محذوف، لأنه اجتزء بدلالة الحال عن دلالة الكلام، ولو لم يكن هناك حال دالة لم يكن بد من ذكر هذا المحذوف إذا أريد به الافهام لهذا المعنى فأما قوله: عليم وحكيم. فإنه يدل على المعلوم من غير حذف.

ومعنى قوله: " لئلا يكون للناس عليكم حجة " ها هنا. قيل فيه قولان:

أحدهما: لا تعدلوا عما أمركم الله في التوجه إلى الكعبة، فيكون لهم عليكم حجة، بأن يقولوا لو كنتم تعلمون أنه من عند الله ما عدلتم عنه.

الثاني: لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة لو جاء على خلاف ما تقدمت به البشارة في الكتب السالفة من أن المؤمنين سيوجهون إلى الكعبة. وموضع اللام من " لئلا " نصب والعامل فيه أحد شيئين: فولوا. والآخر ما دخل الكلام من معنى عرفتكم ذلك. وهو قول الزجاج. وقوله: " إلا الذين ظلموا منهم " قيل فيه أربعة أقوال:

أحدها: أنه استثناء منقطع، و " إلا " بمنزلة (لكن) كقوله (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) (1) وقوله: ماله علي إلا التعدي، والظلم، كأنك قلت: لكن يتعدى ويظلم، وتضع ذلك موضع الحق اللازم، فكذلك لكن الذين ظلموا منهم، فإنهم يتعلقون بالشبهة، ويضعونها موضع الحجة. فلذلك حسن الاستثناء المنقطع قال النابغة:

لا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب (2)

جعل ذلك عيبهم على طريق البلاغة، وإن كان ليس بعيب. كأنه يقول: إن كان فيهم عيب فهذا، وليس هذا بعيب، فإذا ليس فيهم عيب، فكذا إن كان على المؤمنين حجة، فللظالم في احتجاجه، ولا حجة له، فليس إذا عليهم حجة.

القول الثاني: أن تكون الحجة بمعنى المحاجة، والمجادلة، كأنه قال: لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا منهم، فإنهم يحاجوكم بالباطل.

الثالث: ما قاله أبو عبيدة ان (إلا) هاهنا بمعنى الواو كأنه قال: لئلا يكون للناس عليكم حجة والذين ظلموا منهم. وان ذكر ذلك الفراء والمبرد قال الفراء: لا يجئ إلا بمعنى الواو إلا إذا تقدم استثناء كما قال الشاعر:

ما بالمدينة دار غير واحدة * دار الخليفة إلا دار مروان

وانشد الأخفش:

وأرى لها دارا بأغدرة * السيدان لم يدرس لها رسم

إلا رمادا هامدا دفعت * عنه الرياح خوالد سحم (3)

يعني أرى لها دارا ورمادا. وكأنه قال في البيت الأول: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان. وخالفة أبو العباس فلم يجز أن تكون (إلا) بمعنى الواو أصلا.

الرابع: قال قطرب: يجوز الاضمار على معنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا. وموضع الذين عنده خفض على هذا الوجه يجعله بدلا من الكاف كأنه قيل في التقدير: لئلا يكون للناس على أحد حجة إلا الظالم. قال الرماني: وهذا وجه بعيد لا ينبغي أن يتأول عليه، ولا على الوجه الذي قاله أبو عبيدة والاختيار القول الأول. وأثبتت (الياء) في قوله " واخشوني " هاهنا، وحذفت فيما عداه، لأنه الأصل، وعليه اجماع هاهنا.

واما الحذف فللاجتزاء بالكسرة من الياء. وقوله: " واخشوني " معناه واخشوا عقابي بدلالة الكلام عليه في الحال، وإنما ذكرهم فقال " فلا تخشوهم " لأنه لما ذكرهم بالظلم، والاستطالة بالخصومة والمنازعة طيب بنفوس المؤمنين أي فلا تلتفتوا إلى ما يكون منهم فان عاقبة السوء عليهم. وقال قتادة، والربيع: المعني بالناس هاهنا أهل الكتاب. وقال غيرهما: هو على العموم - وهو الأقوى - وقال ابن عباس، والربيع، وقتادة: المعني بقوله " الذين ظلموا " مشركوا العرب. وقال قوم: هو على العموم - وهو الأولى -. وقوله " لئلا " ترك الهمزة نافع. الباقون يهمزون. ويلين كل همزة مفتوحة قبلها كسرة. والحجة هي الدلالة. وهي البرهان.


1- سورة النساء آية: 156.

2- اللسان " فلل " (وقرع). فلول السيف. كسر من حده. القرع: الضرب الشديد الكتائب جمع كتيبة وهي فرقة من الجيش المصفح.

3- اللسان (خلد) ذكر البيت الثاني فقط.