الآيات 11-16
قوله تعالى: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ، وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾
القراءة:
قرأ ابن عامر " ففتحنا " بالتشديد أي مرة بعد مرة وشيئا بعد شئ، لأنه كثر ودام لما فار التنور وانهمرت الأرض والسماء بالماء. الباقون بالتخفيف لأنه يأتي على القليل والكثير، وفي الكلام حذف، وتقديره ان نوحا عليه السلام لما دعا ربه فقال إني مغلوب فانتصر يا رب وأهلكهم فأجاب الله دعاءه وفتح أبو أب السماء بالماء، ومعناه أجرى الماء من السماء، فجريانه إنما فتح عنه باب كان مانعا له، وذلك من صنع الله الذي لا يقدر عليه سواه. وجاء ذلك على طريق البلاغة. والماء المنهمر هو المنصب الكثير قال امرؤ القيس:
راح تمر به الصبا ثم انتحى * فيه شؤبوب جنوب منهمر (1)
أي منصب مندفق، انهمر ينهمر انهمارا، وفلان ينهمر في كلامه، كأنه يتدفع فيه مع كثرته. وقوله " وفجرنا الأرض عيونا " فالتفجير تشقيق الأرض عن الماء، ومنه انفجر العرق وأنفجر السكر، ومنه قوله " وفجرنا خلالهما نهرا " (2) وعيون الماء واحدها عين، وهو ماء يفور من الأرض مستدير كاستدارة عين الحيوان، والعين مشتركة بين عين الحيوان وعين الماء وعين الميزان وعين الذهب وعين السحابة وعين الركبة " فالتقى الماء على أمر قد قدر " معناه إن المياه كانت تجري من السماء ومن الأرض على ما أمر الله به وأراده وقدره. وإنما قال " فالتقى الماء " والمراد به ماء السماء وماء الأرض، ولم يثن، لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير " على أمر قد قدر " فيه هلاك القوم في اللوح المحفوظ. وقيل: معناه إنه كان قدر ماء السماء مثل ما قدر ماء الأرض. ثم قال تعالى " وحملناه " يعني نوحا " على ذات ألواح ودسر " يعني السفينة ذات ألواح مركبة بعضها إلى بعض، والدسر هي المسامير التي تشد بها السفينة - في قول ابن عباس وقتادة وابن زيد - واحدها دسار ودسير، ودسرت السفينة ادسرها دسيرا إذا شددتها بالمسامير أو نحوها. وقيل: الدسر صدر السفينة تدسر به الماء أي تدفع - عن الحسن - وقال مجاهد: الدسر أضلاع السفينة. وقال الضحاك: الدسر طرفاها وأصلها. وقال الزجاج: الدسر المسامير والشرط التي تشد بها الألواح. وقوله " تجري بأعيننا " معناه تجري السفينة بمر أي منا، ونحن نذكرها. وقيل: أعين الماء التي أنبعناها. وقيل: تجري بأعين أوليائنا والموكلين بها من الملائكة. وقوله " جزاء لمن كان كفر " أي كفر به وهو نحوه أي لكفرهم به، كأنه قال غرقناهم لأجل كفرهم بنوح. وقيل: جزاء لنوح وأصحابه أي نجيناه ومن آمن معه لما صنع به، وكفر فيه بالله. وقوله " ولقد تركناها آية " يعني السفينة تركناها دلالة باهرة " فهل من مدكر " بها ومتعظ بسببها فيعلم أن الذي قدر على ذلك لا يكون من قبيل الأجسام وانه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ. وقال قتادة: أبقى الله تعالى سفينة نوح حتى أدركها أوائل هذه الأمة، فكان ذلك آية (ومدكر) أصله متذكر، فقلبت التاء دالا لتواخي الدال بالجهر. ثم أدغمت الذال فيها. وقيل: وجه كونها آية انها كانت تجري بين ما الأرض وماء السماء، وكان قد غطاها على ماء أمره الله تعالى به. وقوله " فهل من مدكر " قد بينا معناه. وقال قتادة: معناه فهل من طالب علم فيعان عليه. وقوله " فكيف كان عذابي ونذر " تهديد للكفار وتنبيه لهم على عظم ما فعله بأمثالهم من الكفار الجاحدين لتوحيده. وإنما كرر " فكيف كان عذابي ونذر " لأنه لما ذكر أنواع الانذار والعذاب انعقد التذكير لشئ شئ منه على التفصيل، والنذر جمع نذير - في قول الحسن - قال: وتكذيب بعضهم تكذيب لجميعهم. وقال الفراء: هو مصدر، ومنه " عذرا أو نذرا " (3) مخففة ومثقلة و " إلى شئ نكر " ويقال: أنذره نذرا بمعنى إنذارا مثل أنزله نزلا بمعنى إنزالا.
1- الطبري 27 / 49 والقرطبي 17 / 132.
2- سورة 18 الكهف آية 34.
3- سورة 77 المراسلات آية 6.