الآيات 31-40

قوله تعالى: ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ، أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ، أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ، أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ، أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ، أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾

لما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا في النبي صلى الله عليه وآله أنه كاهن ومجنون، وانه شاعر نتربص به ريب المنون أي نتوقع فيه حوادث الدهر والهلاك، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وأهل (قل) لهم يا محمد (تربصوا فاني معكم من المتربصين) فالتربص هو الانتظار بالشئ انقلاب حال إلى خلافها. والمعنى إنكم إن تربصتم بي حوادث الدهر والهلاك، فاني معكم من المنتظرين لمثل ذلك، فتربص الكفار بالنبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين قبيح، وتربص النبي والمؤمنين بالكفار وتوقعهم لهلاكهم حسن، وقوله (فتربصوا) وإن كان بصيغة الامر فالمراد به التهديد. وقوله (أم تأمرهم أحلامهم بهذا) على طريق الانكار عليهم ان هذا الذي يقولونه ويتربصون بك من الهلاك. أحلامهم أي عقولهم تأمرهم به، وتدعوهم إليه والأحلام جمع الحلم، وهو الامهال الذي يدعو إليه العقل والحكمة، فالله تعالى حليم كريم، لأنه يمهل العصاة بما تدعو إليه الحكمة، ويقال: هذه أحلام قريش أي عقولهم. ثم قال تعالى ليس الامر على ذلك (بل هم قوم طاغون) والطاغي هو الطالب للارتفاع بالظلم لمن كان من العباد، ومنه قوله (انا لما طغى الماء) (1) لأنه طلب الارتفاع كطلب الظالم للعباد في الشدة، فحسن على جهة الاستعارة. وقوله (أم يقولون تقوله) معناه بل يقولون أفتراه واخترعه وافتعله، لان التقول لا يكون إلا كذبا، لأنه دخله معنى تكلف القول من غير حقيقة معنى يرجع إليه، وكذلك كل من تكلف أمرا من غير اقتضاء العقل أن له فعله فهو باطل. ثم قال (بل) هؤلاء الكفار (لا يصدقون) بنبوتك ولا بأن القرآن انزل من عند الله. والآية ينبغي أن تكون خاصة فيمن علم الله انه لا يؤمن. ثم قال على وجه التحدي لهم (فليأتوا بحديث مثله) يعني مثل القرآن وما يقاربه (إن كانوا صادقين) في أنه شاعر وكاهن ومجنون وتقوله، لأنه لا يتعذر عليهم مثله. وقيل المثل الذي وقع التحدي به هو ما كان مثله في أعلا طبقة البلاغة من الكلام الذي ليس بشعر. وأعلا طبقات البلاغة كلام قد جمع خمسة أوجه: تعديل الحروف في المخارج، وتعديل الحروف في التجانس وتشاكل المقاطع مما تقتضيه المعاني وتهذيب البيان بالايجاز في موضعه والاطناب في موضعه، والاستعارة في موضعها والحقيقة في موضعها. واجراء جميع ذلك في الحكم العقلية بالترغيب في ما ينبغي ان يرغب فيه. والترهيب مما ينبغي ان يرهب منه، والحجة التي يميز بها الحق من الباطل. والموعظة التي تليق للعمل بالحق. وقوله (أم خلقوا من غير شئ) معناه أخلقوا من غير خالق (أم هم الخالقون) لنفوسهم فلا يأتمرون لامر الله ولا ينتهون عما نهاهم عنه. وقيل: معنى (أخلقوا من غير شئ) أخلقوا لغير شئ أي أخلقوا باطلا لا لغرض. وقيل: المعنى أخلقوا من غير أب ولا أم فلا يهلكون، كما أن السماوات والأرض خلقتا من غير شئ، فإذا هم أضعف من السماء الذي خلق لامن شئ، فإذا كان ما خلق لامن شئ يهلك فما كان دونه بذلك أولى. وقوله (أم خلقوا السماوات والأرض) واخترعوها فلذلك لا يقرون بالله أنه خالقهم. ثم قال تعالى (بل لا يوقنون) بان لهم إلها يستحق العبادة وحده ولا يقرون بأنك نبي من جهة الله. وقوله (أم عندهم خزائن ربك) معناه أعندهم خزائن نعمة ربك وخزائن الله مقدوراته، لأنه يقدر من كل جنس على ما لا نهاية له فشبه ذلك بالخزائن التي تجمع أشياء مختلفة. والمعنى كأنه قال: أعندهم خزائن رحمة ربك فقد أمنوا أن تجئ الأمور على خلاف ما يحبون " أم هم المسيطرون " على الناس فليس عليهم مسيطر ولا لهم ملزم ومقوم، فالمسيطر الملزم غيره امرا من الأمور قهرا، وهو مأخوذ من السطر يقال: سيطر يسيطر سيطرة، وهو (فيعل) من السيطرة، ونظيره بيطر بيطرة. وقيل: المسيطر الملك القاهر. وقيل: هو الجبار المتسلط، ومنه قوله " لست عليهم بمسيطر " (2) يقولون: سيطر علي أي اتخذني خولا، وقال أبو عبيدة: المسيطرون الأرباب، والمسيطر والمبيقر والمبيطر والمهيمن والكميت أسماء جاءت مصغرة لا نظير لها. وقرأ قتادة " بمسيطر " بفتح الطاء، بمعنى لست عليهم بمسلط. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي " المسيطرون " بالسين. الباقون بالصاد إلا أن حمزة يشم الصاد زايا. وقوله " أم لهم سلم يستمعون فيه " فالسلم مرتقى إلى العلو من مشيد الدرجة مرتقى إلى علو من بناء مصمت. ويقال: جعلت فلانا سلما لحاجتي أي سببا. وقال ابن مقبل:

لا يحرز المروء احجاء البلاد ولا * تبنى له في السماوات السلاليم (3)

فكأنه قيل أم يستمعون الوحي من السماء، فقد وثقوا بما هو عليه وردوا ما سواه " فليأت مستمعهم بسلطان مبين " أي بحجه يظهر صحة قولهم. والاستماع الاصغاء إلى الصوت، وإنما قيل لهم ذلك، لان كل من ادعى ما لم يعلم ببداهة العقول فعليه إقامة الحجة. وقوله " أله البنات ولكم البنون " معناه ألكم البنون ولله البنات، فصاحب البنين أعلى كلمة من صاحب البنات، وهذا غاية التجهيل لهم والفضيحة عليهم. وقيل: لو جاز اتخاذ الأولاد عليه لم يكن يختار على البنين البنات فدل بذلك على افراط جهلهم في ما وصفوا الله تعالى به من اتخاذ الملائكة بنات. وقوله " أم تسألهم اجرا " أي ثوابا على أداء الرسالة إليهم بدعائك إياهم إلى الله " فهم من مغرم مثقلون " فالمغرم إلزام الغرم - في المال - على طريق الابذال، والمغرم انفاق المال من غير إبذال. واصله المطالبة بالحاح فمنه الغريم، لأنه يطالب بالدين بالحاح، ومنه " ان عذابها كان غراما " (4) أي ملحا دائما. والمغرم لأنه يلزم من جهة المطالبة بالحاح لا يمكن دفعه. والمثقل المحمول عليه ما يشق حمله لثقله.


1- سورة 69 الحاقة آية 11.

2- سورة 88 الغاشية آية 22.

3- تفسير الطبري 27 / 19 ومجاز القرآن 2 / 234.

4- سورة 25 الفرقان آية 65.